حظي عالم «الانترنت» بنصيب الأسد بما حواه من تحاليل وأحابيل عن «الشرق الأوسط»، فالبحث بالعربية وفي موقع واحد يوفر ما يقارب من عشرة آلاف موقع عن «الإسلام الشرق اوسطي»، وهناك 50 الف اطروحة عن «الشرق الاوسط» و400 الف موقع عن «العرب» و14 ألف عن «العروبة» و117 الف عن «الشرق الاوسط» ونصف مليون عن الشرق الاوسط الاسلامي، اما بالانجليزية فهناك 11 مليون موقع له علاقة بالشرق الاوسط، و6,5 ملايين موقع عن «العرب». واني احتاج إلى ما يقارب من 1160 يوما بواقع 24 ساعة يوميا اقضيها على «الانترنت»؛ لكي اتصفح فقط المواقع «الانجليزية» عن «الشرق الاوسط» بواقع دقيقتين عند كل موقع، وهذا في مجمله يزيد على ثلاث سنوات من دون الخلود للنوم لدقيقة واحدة.
أذكر ذلك لكي يتخيل معي القارئ الكم الهائل من المعلومات عن هذه المنطقة المتاحة لصانعي القرار في الغرب والشرق على العموم دون ابناء اللسان العربي. وهناك كم هائل من الموسوعات والقواميس وكتب المستشرقين على كل ما فيها من نقص وتحامل على شعوب المنطقة، وهناك طبعا عالم الصحافة المقروءة وكم هائل من المعلومات له علاقة بالشرق الاوسط في مختلف بلاد الغرب وخصوصا في الجامعات والمعاهد اضافة الى المكتبات الوطنية. وهناك مؤسسات قدمت من خارج الجغرافية العربية وهي موجودة بثقل داخلها، وهي من الأهمية بمكان لصناع القرار السياسي والاقتصادي في الغرب، نذكر منها جميع السفارات الغربية والتي يعتبرها كثيرون أوكارا لجواسيس الغرب ومصنعا لسياسة فرق تسد. وهناك المؤسسات التعليمية الاساسي منها والعالي، كما ان للمؤسسات الثقافية الأجنبية دورا بارزا في بث عناصر ثقافة بلادها. وهناك الأندية والمؤسسات الدينية القادمة من خارج الشرق الأوسط والتي اعتبرت في كثير من الأحيان «شيطانا» في ثوب «ملاك». وهناك الشركات المتعددة الجنسيات التي يزيد عددها على 37 ألف شركة لها 200 ألف فرع منتشرة في انحاء العالم، ومنها 850 فرعا في العالم العربي، وتهيمن 500 شركة عملاقة على 70 في المئة من التجارة العالمية و80 في المئة من الاستثمارات الخارجية. وفي «الشرق الاوسط الأوسع» توجد ديانات كثيرة تتشكل حسب الاحصائية التالية من سكان هذه المنطقة من «البهائيين» وعددهم 605 آلاف بنسبة 3,0 في المئة، والمسيحيين 5,5 ملايين ونسبتهم 2,4 في المئة والدروز 600 ألف ونسبتهم 0,3 في المئة، والهندوس 750 ألفا ونسبتهم 0,3 في المئة والمسلمون 217 مليون ونسبتهم 94 في المئة واليهود 4,5 ملايين ونسبتهم 2 في المئة ومن بقية الديانات 750 ألفا ونسبتهم 0,5 في المئة. (المصدر: موسوعة الشرق الاوسط). وتذكر كتب الاحصاءات أن الإسرائيلي لا يقرأ، أي انه يتساوى معنا في هذه المشكلة إذ تشير إلى أن 0,36 من كل ألف شخص يقرأ عندهم فقط، وان أكثر الشعوب قراءة في هذه المنطقة الشعب القطري ويليه القبرصي. وان «اسرائيل» لديها 3 ملايين كتاب، وتركيا لديها 1,5 مليون، والاردن لديه 700 ألف كتاب، ولإيران 400 ألف، وللكويت 270 ألفا، ولقطر 228 ألفا. (المصدر اليونيسكو) وذكر تقرير «التنمية البشرية العربية» ما عدده اقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي، بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل 1000 شخص في البلدان المتطورة، وان الصحف العربية ذات نوعية رديئة، وغالبية ما يصدر عن وسائل الإعلام العربية ذو مادة إعلامية رديئة وتملكه الدولة ويخضع لسلطتها. وأشار إلى أن مجمل ما تنشره الدول العربية لا يتعدى 1,1 في المئة من مجموع ما ينتجه العالم من كتب، وان ما يترجم على مستوى الوطن العربي يقل عما يترجم في اليونان بمقدار 500 في المئة فيما لا يزيد تعدادهم على 11 مليون شخص، وهناك 65 مليون من الأميين.
ومن منطلق «أهل مكة أدرى بشعابها» نظرت الولايات المتحدة إلى «تقريري الامم المتحدة» نظرة جادة متمسكة بما جاء فيه على أنه الدواء الشافي لكل أمراض الأمة العربية ومجتمع الشرق الأوسط، ضاربة بعرض الحائط كل الدراسات التي انتجتها مراكز البحوث العلمية وأدمغة رجالاتها على مر تاريخها حتى المخطط الاكبر هنري كيسنجر وخلفاؤه الذين لم يستطيعوا أن يمحو ذكراه من عقول أبناء المنطقة. ولا أعرف كيف تخطت الولايات المتحدة كل هذه المراكز العلمية المتخصصة بعلوم «الشرق الأوسط» وأخذت بما جاء به «الكتاب العرب» الذين نظروا إلى الأمر بمنظار عاطفي أكثر منه علميا. كيف تخطت الولايات المتحدة كل مراكز البحوث التي تعنى بالشرق الأوسط على أراضيها وأخذت برأي أقلية من الافراد لا يستمع إلى كلامهم بالمرة ناهيك عن أن ينصت إلى ما يقولون بتمعن؟ بل كيف رضيت الإدارة الأميركية برأي أفراد قليلين دون رأي الأحزاب الكبرى في المنطقة، وكيف لم يتسن لها أن تقرأ دراسات مركز دراسات الوحدة العربية ولا دراسات وتوصيات الجامعة العربية ولا البرلمانيين أو وزراء الداخلية والخارجية العرب، ولا بآراء الطغاة الذين جعلوا من شعوبهم أضحوكة القرن العشرين والتي عاصرتهم الادارات الأميركية المتعاقبة عبر السنوات الخمسين الماضية. لماذا هؤلاء «الكتاب العرب» وحدهم لفتوا انتباه الولايات المتحدة الآن بالذات؟ وقد حدد هؤلاء الكتاب نواقص ثلاثة يحتاج إليها العرب: «الحرية، المعرفة، وتمكين النساء» (التنمية البشرية العربية - 2002 و2003). واتساءل: كيف رضيت الدول الأوروبية أن تتخطى الولايات المتحدة مراكز بحوثها عما يسمى «الشرق الأوسط» وهي التي استعمرت هذا الشرق واحتلته وخاضت الحروب فيه وعلمت فيه أن «دم الثوار» «طهر ونور»، وتقاسمته فيما بينها، بل كيف حصل هذا وقد ادعى بعضها أن بعض دول هذا الشرق جزء لا يتجزء منها؟ كيف حصل كل هذا دون مواجهة منها؟ هل لكونها أضحت ضعيفة وقريبة من «العالم الثالث» الذي ينتمي إليه هذا «الشرق الأوسط»؟
ربما ما قاله صاحب كتاب «أبراج عاجية فوق الرمال» مارت كريمر فيه شيء من الصحة بهذا الشأن: «في العشرين سنة الماضية، فشل خبراء الشرق الأوسط في شرح أو السبق إلى إحداث تغيير في المنطقة التي يدعون أنهم يدرسونها. وهذه الهزيمة هي نتيجة لافتقارهم إلى البعد الفكري، وكذلك إلى الخراب الذي حل بهذا الحقل بسبب الايديولوجيات المستعارة... لقد وصلت الدراسات الشرق أوسطية إلى نهاية فكرية ميتة مشابهة لتلك التي وصلت إليها دراسات الاتحاد السوفياتي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك فإن دراسات الشرق الأوسط مغمورة بالأموال الجديدة والتعيينات الأكاديمية، والتي كان لها تأثير في تأجيل الكثير من الإصلاح الضروري». وعليه نجح «الكتاب العرب» في تشخيص المرض العضال للأمة، ووجدوا في الولايات المتحدة الجراح الذي سيقوم بإجراء العمليات التي يحتاجها هذا الجسد المريض. نحن مقتنعون جدا بأن جراحينا مازالت تنقصهم الخبرة في إجراء عمليات كهذه، واستنجادنا بجراحين من الخارج هو فعل طبيعي ومستحسن، غير ان ما يزعجنا حقا هو من سيدفع اجرة الجراح، الشعوب أم الحكومات؟ فإن أحدا ما يجب أن يدفع الثمن، وأرجو ألا تدفع الشعوب قطرة دم واحدة، فيكفي ما دفعت... يكفي ما دفعت.
وإننا نتوقع أن منطقة «الشرق الأوسط» قد تسقط من دون اللاحقة الجديدة «الأوسع» أو «الكبير» أو «الأكبر»، كما سقط «الاتحاد السوفياتي» السابق وتفكك. وقد يكون هذا السقوط مدويا جدا يُسمع من الشرق إلى الغرب ومن الشمال حتى أقصى الجنوب المتخم بأنواع الامراض الاجتماعية والفقر المدقع. هل نحن مستعدون لمثل هذا السقوط؟ بكل تأكيد نقول: طبعا لا. ما أرمي إليه هو اننا حقيقة غرب أوسطيون أكثر مما هو متداول ومتعارف عليه «شرق أوسطيون». وأود القول ان لنا من القوة العاملة في الغرب ما يفوق أيا من الاقطار الأخرى، فهنا ينتظر 51 في المئة من الشبان العرب فرصتهم الذهبية للهجرة إلى أوروبا. ولنا مراكز علمية وتراث ثقافي وحضاري في الغرب ما يفوق أية دولة أخرى. ولنا من دور العبادة هناك من مختلف الديانات التي أنزلها الله علينا أكثر من أية بقعة أخرى، إلى جانب ذلك هناك «المبادرة الأوروبية الشرق أوسطية الأخيرة» التي تجمع في اتفاق بين «الاتحاد الأوروبي» وبعض الدول العربية، التي تجعل تطور التجارة الحرة بين الدول العربية أمرا حيويا إذ تعني المبادرة الأوروبية منح بعض الدول العربية معاملة تفضيلية للدول الأوربية في قبل امتدادها إلى دول عربية أخرى!
والعجب كل العجب اننا نسينا أن الرئيس جورج بوش لم يستمع لكل تلك المراكز العلمية والمخابراتية التي حذرته من دخول العراق، بل لم يستمع لبوش الأب الذي حذره قائلا: «تجنب النهرين»، ونلاحظ هنا أن الأب لم يقل: «تجنب بلاد ما بين النهرين» ربما قصد الشرق الأوسط الكبير أو الحلم «الإسرائيلي» من النهر إلى النهر.
تحدث بوش في يونيو/ حزيران 2002 مخاطبا العرب: «إنكم جديرون بالديمقراطية وحكم القانون. وجديرون بمجتمع ديمقراطي واقتصاد مزدهر. إنكم جديرون بحياة ملؤها الأمل لأطفالكم... نحن ورثة تقليد الحرية، والمدافعون عن الحرية والضمير وكرامة كل إنسان... وعندما يستنجد بنا قادة الاصلاح فان اميركا ستنجدهم». ونحن نقول: شكرا جزيلا لاعترافكم بأننا جديرون حقا بـ «الديمقراطية وحكم القانون»، وإننا نقدر هذا الاعتراف من أمة ورثة «تقاليد الحرية» وحاملة رايات الدفاع «عن الحرية والضمير وكرامة كل إنسان» أما عن طلب النجدة فقد بحّ صوتنا منذ أمد بعيد نستنجد بكل الوسائل فما من ناصر أو معين. فما بقي لنا الآن سوى أن نصرخ عاليا: أين أنتم، أين أنتم فقد اتسع الخرق على الراتق؟
يذكر آلبرت أينشتاين أن «كل نوع من أنواع التعاون السلمي بين البشر يرتكز في المقام الأساسي على الثقة المتبادلة، ولا يرتكز إلى المؤسسات كالمحاكم والشرطة إلا بشكل ثانوي» ومن هذا المنطلق، منطلق شرط وجود الثقة بين الشعوب للتعاون سلميا فيما بينها فإننا ندعو الولايات المتحدة التي هاجر إليها صاحب المقولة هذه طلبا للحرية والإبداع... أن تعيد التفكير فيما تقوم به من جديد في هذه المنطقة، وأن تعيد الثقة التي أصبحت معدومة بيننا وبينها. وللتأكد مما نقول ما عليها إلا أن تعود إلى الدراسات التي يفيض معظمها بشروط تعزيز الثقة بيننا وبينها، وإلى الإحصاءات التي تبين وجه الفجوة العميقة بيننا وبينها حتى لا تحتاج إلى المؤسسات العسكرية التي ربما تستعد هي الآن لخلق هذا «الشرق الأوسط الأوسع» وفقا لخرائط ذات صبغة واحدة لا غير. لاحاجة لنا بالتذكير بالصبغات التي استخدمت في ما مضى. وإن هذا المخلوق المزمع إقامته ميت لا محالة إذا لم يؤخذ في الحسبان ذلك الشرط الإنساني.
أرجو أنني وفقت من هنا في إعلان موت «الشرق الأوسط» «الأوسع» و«الكبير»... والإعلان عن ولادة الغرب الأوسط الأوسع إذا ما وعت شعوبه ودوله حقيقة الطاقات الكامنة فيه وفي عناصره ووعت حقيقة كنوزه الثقافية ووعت ما يخبئه المستقبل لأجيالها الأكثر علما وتسامحا وحبا وكرما وإبداعا
العدد 586 - الثلثاء 13 أبريل 2004م الموافق 22 صفر 1425هـ