العدد 586 - الثلثاء 13 أبريل 2004م الموافق 22 صفر 1425هـ

حرب الصدمة والترويع... من فلسطين إلى العراق وبالعكس!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

على خطا الوحشية الإسرائيلية، في الصدمة والترويع، تسير القوات الأميركية التي تحتل العراق، فتمارس القتل العشوائي والتدمير الشامل والعقاب الجماعي، من دون رمص يرجف...

ولكي نتذكر فإن مصطلح حرب الصدمة والترويع، أطلقته واشنطن، قبل أكثر من عام بقليل، حين بدأت حملة غزو العراق واحتلاله، ثم إسقاط نظام الحكم الصدامي القهري، وكان المصطلح أو الشعار، يعني ضمن ما يعني، أن القوات الأميركية الغازية، ستستعمل أضخم آلة عسكرية حديثة في العالم، لإحداث صدمة هائلة في النظام المطلوب رأسه من ناحية، ثم إحداث ترويع رهيب لكل من يتصدى للغزو من الشعب العراقي، من ناحية أخرى...

وبقدر ما أحدثت الأثرين في البداية، بقدر ما التقط شارون وعصابته الإرهابية الحاكمة في إسرائيل، الخيط من أوله، ليرفع درجة عدوانيته ويزيد من وحشية عملياته العسكرية، ضد الشعب الفلسطيني لإحداث الصدمة والترويع نفسهيما.

وبقدر سهولة الاختراق الأميركي للعراق، وصولا إلى سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية، وانهيار النظام الصدامي فجأة ومن دون مقاومة تذكر، حتى إن تعبير مروق السكين الحاد في الزبد الطري، أصبح هو العنوان، بقدر ما واجه الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة من مقاومة، تعددت ألوانها وأشكالها وأنواع عمليات ردها، حتى أدمت الجسد الإسرائيلي، بمثل ما أدمى هو الجسد الفلسطيني...

ساعتها أحس الأميركيون بالزهو والخيلاء الناجمين عما أسموه النصر السريع في الحرب «النظيفة الشريفة»، وشعر الإسرائيليون بالمقابل بالغصة في حلوقهم، لأن حلفاءهم نجحوا وحققوا مكاسب استراتيجية هائلة، تمثلت في سقوط العراق بكل ما يمثله من أهمية، في قبضته من دون خسائر تذكر في الأرواح، بينما كانت الضحايا الإسرائيلية تزداد أعدادها، يوما بعد يوم، على رغم كل قسوة حرب الصدمة والترويع...

لكن... بمرور عام على الاحتلال الأميركي للعراق، أعادت واشنطن النظر في حساب المكسب والخسارة، فإذا النتيجة مفزعة حقا، تعكس تغيرات مهمة في صراع المقاومة العراقية، التي كانت تسمى في الماضي، فلول نظام صدام المتهاوي تحارب معركة النفس الأخير... القصير.

لكن نفس المقاومة أصبح طويلا وصامدا، وقادرا في الوقت نفسه على الاستمرار بل التصاعد، إلى الحد الذي استنزف قوات الاحتلال، بكل جنسياته، وخصوصا الاحتلال الأميركي، فإذا بهذا الأخير يعترف بأن قتلاه قد زاد عددهم على الستمئة قتيل فما بالكم بعدد الجرحى، أو بالعدد الحقيقي للخسائر الذي لم يعلن رسميا حتى الآن؟...

ومرة أخرى، حين نستعيد شعارات تلك الأيام، التي أطلقها صقور المحافظين الجدد، أنصار الحرب في كل مكان، المتمركزون في الإدارة الأميركية، والتي روج لها الإعلام الأميركي، وبعض الإعلام العربي، عن نزهة العسكر إلى العراق لتحريره من قبضة الديكتاتور، وعن مظاهرات التأييد والترحيب التي ستستقبل القوات الغازية، في المدن والقرى العراقية، بالورود والزهور، فإننا في الحقيقة نستعيد ذلك الفكر القاصر والتطور الخاطئ الذي حكم شهوة الحرب الأميركية من بدايتها، فأطلق كل طاقات الشر من عقالها...

فكر قاصر عن طبيعة الشعب العراقي وتكويناته واتجاهاته، وتصور خاطئ عن نزهة مفرحة، وخصوصا قد تهاوى النظام الصدامي بسرعة مذهلة، ومن ثم تخطيط ساذج لما بعد انتهاء الحرب، وقد أثبت الواقع الحالي أن كل هذا كان وهما، فالشعب العراقي الذي ابتهج وفرح وتظاهر وأسقط تماثيل قاهرة، لم يكن يفعل ذلك ترحيبا بالاحتلال الأجنبي، بقدر ما كان يفعله فرحا بالتخلص من قهر مستبده الداخلي...

أما حين راحت السكرة وجاءت الفكرة، فقد اختلف الأمر أشد الاختلاف، وقد انكشف الوهم الأميركي وبدت عوراته وانفضحت أسبابه، بل حتى أسباب شن الحرب أصلا، وضبطت الإدارة الأميركية بصقورها وحمائمها خالية الوفاض، لا فكر ولا تخطيط ولا تصور ولا معرفة بالعراق وشعبه، بحاضره ومستقبله، بتكويناته العرقية وتمايزاته المذهبية، بروحه المؤمنة بالاستقلال الوطني العاشقة للحرية على الدوام.

اليوم، انفتح الصندوق السري الأسود في العراق، وانفلت الموقف العسكري والأمني، واضطربت الترتيبات السياسية وسقطت منظومة الأكاذيب، وبرزت حقيقة ناصعة، هي أن الشعب العراقي من الموصل شمالا إلى البصرة جنوبا، انتفض طالبا الحرية والاستقلال، والتحرر من الاحتلال الأجنبي، بعد أن تحرر من المستبد الداخلي، فبدأ التناحر ثم التفكك ثم الاستقالات تنخر في الواجهة السياسية العدائية التي أقامها الحاكم الأميركي (بريمر) ونعني مجلس الحكم المحكوم بالأوامر الأميركية، ودبت الفوضى وانفلت العنف، وأطلقت الآلة العسكرية للمحتل الأجنبي، قواها لتمارس هذا العنف الشرس بالاستخدام المفرط للقوة العسكرية الباطشة، خارج كل قانون إلا قانون الاستعمار والمستعمرين...

وبدلا من أن تحتفل قوات الاحتلال بمرور عام على انتصارها، بعد استخدامها المفرط للكذب والتزوير، فوجئت باحتفال آخر عنوانه الاستخدام المفرط للقوة قتلا وتدميرا وحشيا، لا مثيل له إلا ما يفعله النازي الصهيوني في فلسطين، ولا ندري بالضبط من تعلم درس العنف المفرط من الآخر، ومن علّم الآخر كل هذه الوحشية الدامية والهمجية الشرسة...

ولايزال الاستخدام المفرط للكذب والتزوير قائما، لتبرير الاستخدام المفرط للقوة الشرسة، لايزال قائد القوات الأميركية التي تحتل العراق، يتهم «فلول نظام صدام وعصابات بن لادن والمرتزقة الأجانب»، بأنهم يثيرون الفوضى ويقوضون الاستقرار ليعوقوا بناء الديمقراطية في العراق الجديد، ويحرموا شعبه من الحرية... الأميركية!

ولا ندري كيف يمكن للفلول والمرتزقة مهما بلغ عددهم، أن يهزوا العراق من الموصل وكركوك حتى البصرة والكوت، مرورا ببغداد والفلوجة وبعقوبة والنجف وكربلاء، إلى الدرجة التي يعجز معها جيش الاحتلال الذي يتكون من 150 ألف جندي، معظمهم من الأميركيين مسلح بأحدث ترسانة من تكنولوجيا السلاح، يسنده نحو 200 ألف شرطي عراقي جديد، وفق التصريحات الرسمية الأميركية، عن مواجهة هذه الفلول والشراذم المسلحين بأسلحة خفيفة، ليس من بينها الدبابات والمدرعات والمدفعية والطائرات متعددة الأنواع المسلحة بصواريخ الفتك والدمار...

ومن الغرائب والعجائب في الدراما العراقية الدامية الحزينة المحزنة، أن حرب الصدمة والترويع قد انقلبت على أعقابها انقلاب السحر على الساحر، اللهم لا شماتة، فإذا بالصدمة تصيب الأميركيين وحلفاءهم، وإذا بالترويع يضرب صفوفهم، من خلال عمليات المقاومة العراقية في كل مكان، وإذا بالحل الوحيد أمامهم هو اللجوء إلى الاستخدام المفرط في القوة العسكرية، ضد القوى والمدن والأفراد والجماعات والأطفال والنساء والعزل والمسلحين من دون تفرقة، وإذا بمدينة الفلوجة العراقية تنادي جنين الفلسطينية، فكلاهما في مأساة تدمير البيوت فوق رؤوس أهلها، وفي القتل العشوائي سواء بسواء، كلاهما أصبح رمزا لمجازر المحتل الغاصب!

لقد راهنت سياسة صقور اليمين المحافظين الجدد المتحكمين في القرار الأميركي، على اللعبة الاستعمارية البريطانية الكلاسيكية، في تقسيم شعب العراق بين الأعراق المتعددة، عرب وأكراد وتركمان، وبين الطوائف الدينية، سنة وشيعة ومسيحيون، ورسخوا التقسيم الطائفي للقيادات والوظائف والمميزات، على أمل أن يظل الاحتلال الأميركي قابضا بقوة على العراق أرضا وشعبا ونفطا وموقعا استراتيجيا، وأن يبقى هو مظلة الحماية للتقاسم الطائفي والتناحر العرقي...

وراهنوا على عزل السنة وهم الأقلية فيما يعرف بالمثلث السني حول بغداد وغربها، ليضمنوا ولاء الأكراد السنة شمالا والعرب الشيعة جنوبا، ولذلك ركزوا هجومهم العسكري الرئيسي على مثلث السنة، المتهم بأنه وحده الذي يحتضن «فلول المقاومة» النشيطة، لكن خاب الرهان، حين انتفض قطاع مهم من الشيعة بقيادة مقتدى الصدر، الذي ينتمي إلى أحد أهم مراكز «الحوزة الشيعية المؤثرة» وبدأ الرفض ومقاومة الاحتلال الأجنبي، مثلما امتدت الانتفاضة المقاومة، حتى الشمال في الموصل وكركوك، وإن بنسب أقل!

فهل جاءت مفاجأة انتفاضة مقتدى الصدر وقواته «جيش المهدي» اعتباطية غير مدروسة وخارجة عن السياق الوطني العام، على نحو ما يروج المحتلون وحلفاؤهم ومبشروهم؟ أم أنها جاءت، كما نعتقد، ضمن السياق الوطني العام الرافض أصلا لاستمرار الاحتلال، النازع للاستقلال، المحتج على سلوك قوات الاحتلال، ما قلب كل المعادلات وهدم كل الترتيبات؟...

وبالمقابل، هل تستطيع الانتفاضة الشيعية من كربلاء والنجف حتى الكوت، أن تربط خطوط تنسيقها مع الانتفاضة السنية من بغداد إلى الفلوجة، لتعيد إيقاظ باقي الشعب العراقي وتضمه في صف وطني واحد، يحارب المستعمر ويسعى إلى تحرير الوطن، ويعمل على إقامة عراق جديد حقا...

ربما تستطيع قوات الاحتلال أن تدمر الفلوجة وبغداد والنجف وكربلاء والبصرة، وأن توقع أفدح الخسائر في صفوف المقاومة، وأن تقضي على «جيش المهدي»، بحكم الفوارق الهائلة في موازين القوى العسكرية، ولكنها لن تستطيع أن تستمر إلى الأبد في تكميم أفواه الشعب العراقي وفي القضاء على قواه الوطنية الحية النازعة للاستقلال والحرية... فهذا درس التاريخ في كل مكان، وفي العراق خصوصا، فقد كبتت بريطانيا الاستعمارية انتفاضة الشعب العراقي في العشرينات من القرن الماضي، لكنه نجح بعد ذلك في الاستقلال، وكبت نظام صدام القهري انتفاضة الشيعة جنوبا والأكراد شمالا، لكنه سقط وبقي هؤلاء...

وبقدر رهاننا التاريخي على مقاومة الشعب العراقي، بقدر رهاننا على أن خسائر قوات الاحتلال الفادحة، وعلى اكتشاف الضمير العالمي، والضمير الأميركي تحديدا، لهول الفظائع التي ترتكبها هذه القوات ضد الشعب العراقي، ستحدث آثارها من الآن فصاعدا، ولنتذكر حرب فيتنام وآثارها...

ولنذكِّر الجميع، بأن المجازر الأميركية في العراق، والمذابح الإسرائيلية في فلسطين، قد تحالفت معا في تناسق مثير، لتصبح عنوانا على عصر الهمجية والكراهية الدامية، حتى لو تخفت وراء أكاذيب فرض الديمقراطية ومحاربة الإرهاب!

ولنذكِّر أيضا بأن الصمت العربي الراهن المتجاهل لما يحدث في العراق، أصبح عنوانا كبيرا على العجز!

خير الكلام

يقول شاعر العراق الكبير الجواهري:

فما نُصَابِحُ إلا مَنْ يُمَاسِيْنَا

ولا نُرَاوِحُ إلا مَنْ يُغَادِيْنَا

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 586 - الثلثاء 13 أبريل 2004م الموافق 22 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً