الأسبوع الماضي شهد توترا في مجلس الأمة الكويتي، انتهى بأن قذف احد الأعضاء على زميله كأس ماء في حال غضب شديد، وقال له «اطلع لي بره» أي اخرج إلى الخارج، تهديدا ووعيدا. وفي الأسبوع نفسه شهدت مصر أول دعوى قضائية ناجحة رفعت من صحافي ادعى على أستاذ جامعي في تخصص الفلسفة، بأنه سارق علميا فأدانت المحكمة الأستاذ!
قد يبدو أن لا رابط بين الحادثتين لأول وهلة، واحدة في مجلس نيابي، وأخرى في جامعه علمية، ألا أني أرى أن هناك ترابطا ما بين الحادثتين، إن درسنا التفاصيل. وهو ترابط من جانبين: الأول هو ضياع قيمة المؤسسات في مجتمعاتنا العربية وتدهور العمل فيها، والثاني هو الدفاع عن زملاء النادي، مهما كانت تصرفاتهم تخرج عن المألوف وتناقض المعقول. ولبيان ذلك لابد من سرد التفاصيل.
في الإسكندرية أستاذ جامعي متخصص في الفلسفة، وله عدد من الكتب في الموضوع المتخصص فيه، اتهمه احد الصحافيين بالسرقة العلمية من كتب أخرى ومن أعمال سابقة، وأحال وزير التعليم العالي المصري الاتهام إلى لجنة علمية من أساتذة الجامعة، توصلت بعد مداولات إلى قرار، ان الصحافي قد اتهم الأستاذ ظلما وعدوانا، وان هذا الأستاذ الذي خرج الكثير من الطلبة من تحت يده، واشترك في لجان علمية كثيرة لترقية زملائه، بريء من الاتهام. إلا أن الصحافي أصر على اتهامه، واستمر في نشر ما يعتقد انه سرقات علمية من طرف الأستاذ المذكور، إلى أن ضاق الأخير ذرعا فرفع دعوى ضد الصحافي يتهمه فيها بالتشهير تقليلا لمكانته العلمية، وخصوصا في ضوء تبرئته علميا من قبل لجنة أساتذة، ونظرت المحكمة في الدعوى، وفحصت القضية واستشهدت بمن يعرف في الأمر، وفي النهاية وجدت أن الأستاذ فعلا قد قام بسرقة علمية مشهودة، وان أقوال الصحافي كلها في هذا الموضوع صحيحة وحقيقية!
التعليم أمانة، بل وأمانة كبرى، مثلها مثل تمثيل الناس في المؤسسات المنتخبة، ولكن بعض المؤسسات العلمية، تصل بعد فترة إلى تجُمد وترهل، ويتكاتف الأفراد فيها من اجل دفع الضرر عن «عضو» ينتمي إليها، بصرف النظر عن خطئه أو صوابه، وهي روح «تكاتف وتساند» إن صحت في وظائف أخرى ومهن كثيرة، فهي يجب ألا تصح في مؤسسات التعليم أو القضاء أو التشريع.
هنا يتضح الربط الأول بين «تكاتف» مؤسسة التشريع في الكويت مع بعض الأعضاء المخطئين، إلى درجة «استخدام قوة العضل بدلا من قوة العقل» والتصالح الشخصي من دون النظر إلى ما سببه الأمر من سلبيات لدى المواطنين وفي الفضاء التشريعي عموما، وعلى سمعة المؤسسة التشريعية في نظر مواطنيها، في الوقت الذي تواجه فيه الكويت استحقاقات عظمى، لم تكن مسبوقة في تاريخها الحديث، أولها نقص الماء، أهم عنصر من عناصر الحياة، ومرورا بإصلاحات مستحقة كبرى مثل تمكين المرأة وإصلاح قانون الانتخاب وتغيير الدوائر الانتخابية، والعلاقات مع الجوار التي قد تضطرب في أية لحظة، وبعض الأعضاء يقذفون كؤوس الماء على البعض الآخر في إطار المفروض أن يسود فيه العقل، وتصبح صور الصباح في الصحف هو طريق كأس الماء المقذوف باتجاه الهدف.
في هذا الوقت بالذات تتناقل وكالات الانباء على مدار المعمورة وفي الصحف العربية والأجنبية (اشتباك كأس الماء) الذي شكل أجندة مخالفة لما يريده أبناء الكويت لها من صورة، بالاهتمام بالجوهري من الأمور الحياتية.
وفي الوقت الذي تصدر فيه التقارير العلمية الدولية تلو التقارير بلوم العرب وتخلفهم في القضايا العلمية، وبأن المعرفة في بلادنا العربية هي في أسفل درجات سلم اهتمامات الدولة والمجتمع، وأن المشاركة العلمية العربية محدودة في الإسهام العالمي، تأتي لجنة أساتذة لتبرئ زميلا لها من تهمة بدا من حكم المحكمة أنها واضحة الأركان والمعالم، وفي ذلك إخلال فاضح بمبدأ الاستقلالية العلمية والحرص على تطوير البحث العلمي، ومهما بدا للبعض من هامشية الأمر، ألا ان للأمر دلالة اجتماعية وأخلاقية قصوى لمن عقل له.
الاستهانة بعمل المؤسسات هو العنوان الأوسع الذي يجمع الحادثتين، والتكاتف والتآزر المضر بالمصلحة العامة بين المنتمين للنادي الواحد، إلى درجة تقود إلى الإهمال والشطط، والظاهرة المؤسفة التي يتألم منها أي عاقل. تزامن كل ذلك بصورة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها، بما يحدث في الكونغرس الأميركي وكيفية إدارة صناعة القرار في الولايات المتحدة، التي تناقلتها وسائل الاعلام العالمي على نطاق واسع، في اللجنة المشكلة لتقصي حقائق الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وعلى بعد قريب من الانتخابات الرئاسية الأميركية، نشاهد نحن أبناء العالم الثالث، صورة أخرى، وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس، وغيرهما من كبار المسئولين و المستشارين في الإدارة الأميركية، يواجهون لجنة التحقيق ويخضعون بهدوء وثبات للأسئلة المحرجة التي توجه إليهم، ويجيبون بوضوح وبتفاصيل دقيقة عن مسيرة اتخاذ القرار قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعده، من أجل اكتشاف الأخطاء وإصلاح المثالب، ومعاقبة المسيء أو المهمل في الشأن العام.
في هذه الشهادات يرى المشاهد ويسمع المتابع كيف تدار الدول، بشفافية كبيرة وبمسئولية عالية. تلك صورة وهذه صورة، كأس يمر على رؤوس المشرعين في قذيفة شبة صاروخية مقابلا الحجة والرأي بغضب منفلت، ولجنة من الأساتذة تفشل في رؤية الواضح من الأمور.
لعل الإضاءة الوحيدة هنا هي إصرار ذلك الصحافي المصري الشجاع الذي قاوم كل الضغوط ليثبت أن لديه شيئا يدافع عنه ويستحق كل ذلك العناء، ونحن مازلنا نبكي على كأس كسرناه.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 585 - الإثنين 12 أبريل 2004م الموافق 21 صفر 1425هـ