العدد 58 - السبت 02 نوفمبر 2002م الموافق 26 شعبان 1423هـ

الغرب يطالب بالتقارب والحكومات المحلية تؤجل ميلاده

المغرب العربي بين الاتحاد المنشود والسوق المغيبة

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

أدى قبل أيام المدير العام لصندوق النقد الدولي هورست كوهلر زيارة عمل إلى تونس. وعلى رغم أن محادثاته مع المسئولين التونسيين تندرج ضمن الاتصالات الروتينية التي يقوم بها المشرفون على الصندوق مع الدول المستفيدة من خدماته والملتزمة بتوجهاته مثل تونس التي وصفها بالتلميذ الجيد، إلا أن ما لفت النظر في تصريحاته هو إلحاحه على ضرورة إنجاز خطوات عملية في اتجاه توحيد أسواق دول المغرب العربي ذات الخمسين مليون مستهلك، مؤكدا أن ذلك يعتبر شرطا حيويا بالنسبة لمستقبل هذه المنطقة وعاملا حاسما لاستقطاب استثمارات خارجية مهمة. هذه الدعوة تعتبر رسالة مضمونة الوصول إلى كل السياسيين من أصحاب القرار وجميع المثقفين العرب الذين لم يعيدوا النظر في تحليل ما يجري حولهم من تحولات عميقة في المواقف وفي مضامين السياسات الدولية والمحلية. فصاحب هذه الدعوة لا ينتمي إلى التيار القومي العربي، ولكنه يؤمن بأن الوحدة ضرورة استراتيجية لاكتساب القوة. فهذا الرجل الذي يعتبر من بين أهم الشخصيات المالية في العالم، قبل أن يتربع على رأس أخطر منظمة مالية دولية، لعب دورا حاسما في مسيرة توحيد شطري ألمانيا، ثم أصبح رئيس «البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية».

لم تكن هذه الدعوة الملحة للتعجيل بوحدة المغرب العربي على الصعيد الاقتصادي الأولى من نوعها، إذ سبق للاتحاد الأوروبي الذي تربطه اتفاقات شراكة مع كل من تونس والمغرب وأخيرا الجزائر، أن عبر عن الرغبة نفسها ولايزال يضغط في هذا الاتجاه. أما الجهات الأميركية فقد عرضت للمرة الأولى في تاريخ علاقاتها بهذه المنطقة مشروع شراكة عرف بمبادرة صاحبها «إيزنشتات»، ولاتزال أكثر من عشر شركات ضخمة متعددة الجنسيات تنتظر القيام بما تعتبره «إصلاحات» ضرورية لتتمكن من اقتحام هذه السوق الجديدة بالنسبة للرأسمال الأميركي.

انقلبت الآية

هكذا يتبين أن الآية انقلبت، إذ سقطت الحجة التي كان يستعملها الوحدويون سواء القوميون أو الإسلاميون لتفسير حال التجزئة. لقد كانوا يرددون في مراحل سابقة أن الغرب ـ الذي يحمّلونه مسئولية «تفتيت جسم الأمة وإقامة الحدود الوهمية بين شعوبها وأقطارها» ـ يعمل بكل الوسائل لإفشال جميع محاولات الوحدة ومقاومة دعاتها. أما اليوم فقد اتخذت المسألة بعدا أكثر درامية، إذ أصبح الغرب يعتقد أن مصلحته تكمن في توحيد الأسواق العربية، بينما يصر أصحاب الشأن على إبقاء دار لقمان على حالها.

فالاتحاد المغاربي الذي أشاع الكثير من التفاؤل لحظة مولده العام 1989 سرعان ما أدخل غرفة الإنعاش ليستمر الاختلاف طيلة سنوات بين من يعتقد أنه قد مات فعلا وأصبح جزءا من الماضي، وبين من يؤمن بأن هذا الكيان لايزال على قيد الحياة لكنه في غيبوبة قد يستيقظ منها في ذات صباح بمعجزة إلهية. وعلى رغم تشابك المصالح، ووحدة الأرضية الثقافية والتاريخية، وكثرة الخطب السياسية التي تتغنى بالمغرب العربي، واختفاء حاجز التأشيرة أمام انتقال المواطنين (ماعدا بين المغرب والجزائر)، وتعدد الاتفاقات التجارية وتبادل الزيارات الرسمية، فإن التبادل التجاري بين مجموعة دول المنطقة لم يتجاوز نسبة 4 في المئة. صحيح أنه كان قبل اتفاق مراكش (1979) في حدود صفر فأصل أربعة في المئة، ليقترب خلال سنة 1982 من 2,2 في المئة، غير أن هذا النمو السلحفاتي لا يستجيب مطلقا لتحديات المرحلة التاريخية، ولا ينسجم مع حجم الاجتماعات والندوات الرسمية وغير الرسمية التي نظمت ولاتزال دفاعا عن فكرة المغرب العربي.

خطوة إلى الأمام...

خطوتان إلى الوراء

لا يعني ذلك أن حكومات المنطقة غير مدركة للمنافع الضخمة التي ستنجر عن تعميق التشابك الاقتصادي. ومما يدل على ذلك أن اتحاد المغرب العربي قد وضع استراتيجية للتنمية المشتركة في قمة «رأس الأنوف» في ليبيا منذ العام 1991. وتضمنت هذه الاستراتيجية مرحلتين مهمتين لتحقيق الاندماج الاقتصادي، ففي المرحلة الأولى يتم تحرير التبادل والخدمات، ثم يعقبها انسياب عوامل الإنتاج في المرحلة الثانية. بعد ذلك جاءت المعاهدة التجارية عن التعريفة الجمركية التي تعتبر من أهم الاتفاقات الجماعية التي تم إبرامها، وكان من المؤمل أن تؤدي إلى قيام الوحدة الجمركية بين دول المغرب العربي قبل نهاية سنة 1995. كما بدأت الإجراءات الفعلية في إنشاء المصرف المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية برأسمال يتجاوز 150 مليون دولار. وهناك أكثر من 20 اتفاقا تتعلق بالأمن الغذائي والثقافي والإعلامي، تنتظر منذ فترات متباعدة الشروع في تنفيذها. ولعل هذه الكثرة هي التي دعت المغرب إلى المطالبة منذ خريف 1991 بـ «تخفيف خطوات اتخاذ القرارات التي ترمي إلى تحقيق الاندماج الاقتصادي».

في الأثناء كانت الدبلوماسية المغاربية مشغولة بإطفاء الحرائق التي تنشب هنا وهناك ـ وما أكثر الحرائق في العالم العربي ـ ومع كل أزمة ثنائية تتشتت الطاقات، وتضيع الفرص، وتزهق الكثير من الجهود، ويتبين أن أزمة العمل المغاربي مثله مثل العمل العربي أعمق من مجرد إقامة هياكل موحدة للتنسق. إنها أزمة الموروث والثقافة السياسية.

عاملان وراء العطالة التاريخية

إن المتأمل في أحوال المنطقة وأنظمتها السياسية يلاحظ أن عوامل التنافر والتضاد داخل مكونات الوضع الإقليمي والثقافة السياسية السائدة لاتزال هي الغالبة والأقوى من عناصر التضامن والوحدة. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى وجود عاملين على الأقل لايزالان يحولان دون تحقيق التكامل المغاربي المنشود، وهما عاملان داخليان أساسا، من دون حجب التأثيرات الخارجية التي قد تتدخل أحيانا وتستفيد من التناقضات الذاتية.

أولا: أنظمة الحكم في المنطقة لاتزال محكومة بتداعيات الماضي البعيد والقريب، كما تلعب الاعتبارات الذاتية والظرفية دورا أكثر قوة وتأثيرا من المؤسسات والأهداف الاستراتيجية. فالسياسات المغاربية، مثلها مثل السياسات العربية، مزاجية إلى حد كبير، وتفتقر إلى العقلانية والتخطيط بعيد المدى، ونادرا ما تعطى الأولوية للمصالح المشتركة على حساب الخلافات الشخصية أو التوترات الظرفية. وعلى رغم تأكيد الجميع ضرورة الاعتبار بالماضي، واعتماد الواقعية والمرحلية والتسليم بخصوصيات كل دولة، فإن السياسة اليومية بقيت تحتل مساحة ضخمة من شأنها أن تحجب الأبعاد الاقتصادية والبشرية والثقافية.

ثانيا: تغليب المشاغل المحلية على القضايا والاتفاقات المشتركة. إذ لا يخفى أن كل دولة تواجه تحديات خطيرة، ولها سلم أولويات خاص بها فتجد نفسها غارقة في مشاغلها المحلية. لكن عندما تتحول الهموم المحلية إلى المرجعية الوحيدة لتحديد المصير فإن ذلك ينقلب من حال طبيعية إلى تضخم مرض يتجاوز مشروعية الدولة القطرية ووظيفتها التاريخية ويحولها إلى عامل مهدد لوجودها. فدول الاتحاد الأوروبي مثلا لاتزال متمسكة ببعدها القومي وخصخصياتها الثقافية ومصالحها القطرية، لكنها أدركت أن تطور نسق اندماجها في محيطها أصبح حتمية تاريخية لتدعيم وجودها والمحافظة على استمراريتها. وهذا النمط من التفكير والوعي والثقافة تفتقده الدولة القطرية العربية لأن الماسكين بها يواصلون الانخراط في حروبهم الصغيرة من أجل البقاء في السلطة

العدد 58 - السبت 02 نوفمبر 2002م الموافق 26 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً