من المفارقات الكبرى التي نعايشها الآن في النظام العالمي الجديد - إذا كان هناك من نظام، هي في سعي العم سام إلى إنعاش وإعادة إحياء حلف الناتو. فالحلف كان قد شُكّل لهدف معيّن، هو احتواء الاتحاد السوفياتي بناء لنصيحة الدبلوماسي الاميركي جورج كينان. وفي الوقت نفسه، قتال الدب الروسي ودباباته، في حال خرقهم للستاتيكو، لاحتلال اوروبا الغربيّة. يندرج حلف الناتو في الاستراتيجيّة الاميركية الكبرى خلال الحرب الباردة. في أنه كان إحدى اهم وسائل الردع للدب الروسي، وحتى انه كان وسيلة القتال الرئيسيّة، خصوصا إذا عتبرنا ان اوروبا الغربيّة كانت تشكّل المسرح الاساسي لقتال الجبارين. بواسطته، احتوت اميركا الاتحاد السوفياتي من الجهة الاوروبيّة. وفي الوقت نفسه خلقت مع حلفائها (المانيا + اليابان) مساحة واسعة على المسرح العالمي، شكّلت - اي المساحة - واحة ازدهار ونمو اقتصادي للعالم الحرّ، كان إحدى اهم الاسباب لسقوط حائط برلين، وبالتالي سقوط الشيوعيّة. هذا مع التذكير، ان الحلف كان يكمّل فكّي الكماشة. هو من الغرب - اوروبا كفكّ اول، وشبكة من الدول تمتد من اوروبا وحتى اليابان، كانت تشكّل الفك الثاني.
وإذ سقط الدب الروسي، تفرّدت اميركا - حتى الآن بمصير العالم. لكن الغريب ان المؤسسات خاصة الامنيّة - الناتو، ظلّت حيّة بعد ان سقط العدو المفروض قتاله. وهذا امر يعتبر غريبا في العلاقات الدوليّة. فعادة تسقط المؤسسات والتي كانت قد تشكّلت بسبب نظام عالمي معيّن، فورا عند سقوط هذا النظام. حلف الناتو هو الاستثناء حاليا. فماذا عنه؟
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، اعتقد الكلّ ان حلف الناتو لم يعد له لزوم، ولا بد من حلّه. لكن كبار المفكّرين الاستراتيجيّين الاميركيين في البنتاغون كانوا قد كتبوا دراسة تقترح كيفيّة إبقاء السيطرة الاميركية على العالم انطلاقا من الأسس الآتية:
1- إن مهمّة اميركا الرئيسيّة تندرج في إفهام الدول الكبرى المنافسة، والتي تسعى إلى دور اكبر على الساحة العالميّة، عقم هذا السعي.
2- رأت الدراسة عالما تسيطر عليه دولة عظمى واحدة - هي بالطبع الولايات المتحدة، وذلك عبر سلوك بنّاء، وقدرة عسكريّة قادرة على ردع أيّة دولة، او مجموعة من الدول تتحالف فيما بينها لتحدّي العم سام.
من هنا يمكن النظر إلى عمليّة توسيع الناتو. فالولايات المتحدة حاليا، هي قوّة مهيمنة، تسعى إلى المحافظة على الستاتيكو القائم، فقط لانه يناسبها Status-پuo Power. لكنها، أي الولايات المتحدة تتحضّر، أو تحضّر المسارح الممكن ان ينافسها احد فيهاـ أوروبا، وآسيا هما المسرحان المحتملان لهذه المنافسة.
في العام 1999، كانت اوّل عمليّة توسيع للناتو. انضمّ إلى هذا الحلف ثلاث دول فقط، وبصورة عشوائيّة هي: بولندا، تشيكيا وهنغاريا. أما في العام 2004، فقد انضمّ إلى هذا الحلف سبع دول هي: بلغاريا، استونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا وسلوفينيا.
ما معنى هذا الانضمام الاخير؟
إن نظرة بسيطة على خريطة توزّع هذه الدول السبع على القارة الاوروبيّة، تظهر لنا الاهميّة الجيواستراتيجيّة لهذه الدول. فهي تمتدّ جغرافيّا من بحر البلطيق في الشمال، وفي خط مستقيم نحو الشمال وحتى البحر الاسود.
تندرج اهميّة هذا الخط الجغرافي، في انّه وصل إلى اقصى امتداده الجغرافي الاقرب إلى الحدود الروسيّة. ولم يعد هناك من فاصل جغرافي بين مساحة انتشار دول الناتو وروسيا، سوى بلاروسيا، اوكرانيا ومولدوفا، والتي قد تنضم لاحقا على رغم من تواجد العسكر الروسي على اراضي البعض منها.
لا يمكن بعد هذا الضم الجديد، من ان يتقرّب حلف الناتو اكثر من مناطق النفوذ الروسيّة. فهل يُعاد حاليّا رسم حدود مناطق النفوذ بعد ضرب كل ما كان قائما قبل السقوط السوفياتي، والذي حدّدته اتفاقات يالطا؟ بالطبع. فالوضع الاميركي الآن مناسب جداّ، كذلك الوضع الروسي والذي انطوى تقريبا إلى الداخل بهدف ترتيبه. إذا لا بدّ من استغلال هذا الظرف.
يُضاف إلى ما ورد اعلاه، ان عشر دول جديدة، معظمها من الدول المذكورة اعلاه، ستنضمّ ابتدءا من اوّل مايو/ أيار 2004، إلى الاتحاد الاوروبي. وقد يجعل هذا الانضمام الاتحاد الاوروبي في معظمه مؤيّدا للولايات المتحدة. بذلك تسيطر اميركا على اوروبا سياسيّا، كما عسكريّا. وقد يحرج هذا الوضع كلا من المانيا وفرنسا، البلدين المعارضين للسلوك الاميركي. وقد يؤدّي هذا الامر إلى تفرّد البلدين في سلوكهما ايضا. بذلك، لا وحدة سياسية اوروبيّة. ولا وحدة عسكريّة اوروبيّة. فتحقّق بذلك اميركا هدفها بعدم السماح للاتحاد الاوروبي من ان يتكوّن كقوّة عظمى منافسة حسب ما ذكرناه آنفا.
بعد الحرب الاخيرة على العراق، ظهرت اميركا انها الدولة الاقوى عسكريا، والقادرة على دحر أيّة دولة وفي وقت قصير. لكن هذه الحرب اظهرت ايضا ان اميركا عاجزة عن تحويل النصر العسكري إلى نصر سياسي، أي ربح السلم. إذا هي بحاجة إلى من يتولّى هذه المهمّة. قد تكون مهمّة دول الناتو المنضمة حاليا من ضمن هذا الاطار. هذا مع العلم ان 9 من اصل الدول العشر التي انضمّت، تشارك حاليا بقوى رمزيّة في العراق على الشكل التالي: رومانيا 700 جندي، بلغاريا 470، لاتفيا 145، ليتوانيا 90، سلوفاكيا 85 واستونيا 55 جنديا.
تحاول اميركا من خلال هذا التوسّع، او قد يكون من نتائج هذا التوسّع، محاولة اميركية لفصل وعزل روسيا عن اوروبا الغربيّة. مع ما يحلمه هذا الفصل، من إمكان التحكّم في مسالك انابيب الطاقة القادمة من اصقاع روسيا إلى الاتحاد الاوروبي. خاصة وانه من المرتقب ان تكون روسيا في العقدين القادمين، اللاعب الاساسي في مجال الطاقة.
مقابل الجهّة الاوروبيّة، تستكمل الولايات المتحدة عمليّة التطويق المُحكم على روسيا من جهّة أسيا الوسطى، خصوصا بعد حادثة 11 سبتمبر/ ايلول والحرب على أفغانستان. كذلك الامر، دخلت اميركا حديثا على الخطّ المنغولي في الشرق الاقصى، بعد ان بدأت بالتعاون العسكري مع هذا البلد والذي كان منسيّا. إذا، منغوليا تكمّل الطوق، لتظهر الصورة الكبرى. تندرج منغوليا ايضا في محاولة تطويق الصين، وهذا ليس موضوع مقالنا هنا، وقد نتركه لفرصة لاحقة.
الصورة الاستراتيجية الكبرى
إذا من اوروبا الشرقيّة، إلى آسيا الوسطى والشرق الاوسط، وحتى منغوليا، كيف تبدو صورة الاستراتيجيّة الاميركية الكبرى؟
بحسب ما يظهر لنا، يبدو ان استراتيجيّة اميركا الكبرى تسير حتى الآن على خطّين متوازيين هما:
- الخط الاوّل، يقوم على حماية الأرض الاميركية من 11 سبتمبر ثانية، واستمرار الحرب على الارهاب في الوقت نفسه. وخصوصا ان الارهاب كان السبب الرئيسي في الحروب الاميركية الاخيرة.
- الخط الثاني، يقوم على استغلال الحرب على الارهاب لتثبيت الهيمنة الاميركية على العالم. يقوم هذا التثبيت، اي الهيمنة، على مأسسة الانتشار العسكري الاميركي على اصقاع العالم بشكل جديد، وبطريقة يخدم الاستراتيجيّة الكبرى والتي كنا قد ذكرناه آنفا من خلال دراسة البنتاغون.
- بعد الانتهاء من الحرب على الارهاب، هذا إذا انتهت قبل ان تجد اميركا عدوا جديدا. وبعد ان تكون اميركا مأسست ما تحدّثنا عنه اعلاه، يصبح العالم تحت رحمة القرار الاميركي، في الوقت الذي تحتاج فيه القوى الكبرى الاخرى إلى الكثير من الوقت للردّ على الاستراتيجيّة الاميركية. هل هذا ممكن؟ طبعا، وهذا ما يظهر حتى الآن. لكن التاريخ علّمنا ان القوى الكبرى والعظمى، لن تستمر عبر التاريخ كلّه في الصعود، إذ لا بد من السقوط في وقت من الاوقات. لكن الجديد في عالم اليوم، ان السقوط لم يعد يحتاج إلى قرون من الزمن، كما كان يحدث ايام روما. فالاتحاد السوفياتي سقط بعد نصف قرن من الزمن، لكن سقوطه كان تقريبا سلميّا، ودون حرب شاملة. فكم سيستلزم اميركا كي تسقط؟ وهل سيكون سقوطها سلميا ام دمويّا؟ الجواب في عهدة المستقبل
العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ