العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ

موت صحافي: قصة القرن العشرين في الغرب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

قد لا يعرف الكثيرون من هو «الستر كوك»، ولمن لا يعرف فإننا نقول انه صحافي أميركي من اصل بريطاني توفي أخيرا عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، عرفت وربما غيري يعرف الستر كوك من برنامجه الإذاعي الشهير «رسالة من أميركا»، الذي تبثه الإذاعة البريطانية منذ أكثر قليلا من نصف قرن.

تعرفت على صوت الستر كوك في بداية السبعينات، وأنا على مقاعد الدراسة في بريطانيا، وكان الأستاذ يحثنا على معرفة اللغة الإنجليزية من خلال الاستماع للراديو، وخصوصا البرنامج الرابع في هيئة الإذاعة البريطانية، هناك وفي صباح كل سبت كنت استمع لصوت الستر كوك الهادئ الذي يتحدث لثلاث عشرة دقيقة ونصف الدقيقة في «رسالة من أميركا» يُحملها مشاهداته وتعليقاته على ما يحدث في أميركا أو حول العالم وله علاقة بأميركا، حديثا طريا وشائقا بكلمات بسيطة واضحة وبصوت يحمل سمات الممثل المفكر قبل خشونة المذيع.

في بداية مارس/ آذار الماضي أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية تقاعد الستر كوك، بعد أن امضى 58 عاما يقرأ كل أسبوع رسالته من أميركا، والتي بلغ عددها 2869 رسالة، وكانت الرسالة الأخيرة قد سجلها في 20 فبراير/شباط الماضي بعنوان: «صدام حسين وبوش الأب والابن».

لم يلتفت الكثيرون لالستر كوك وانتقاله إلى الدار الآخرة في بلادنا العربية، ولكن بالتأكيد هناك كثيرون سمعوا هذا الصوت والأكثر استمتعوا بطريقته في العرض والكمية الرائعة من المعلومات التي يستعرضها في موضوعه القصير والمشوق، أما أهم ما كان يميزه فهما شيئان: الأسلوب السلس والبسيط والمتدفق في اختيار كلماته، إذ آمن من البداية كما يقول، بكلمات الكاتب الأميركي الشهير مارك توين: «إن الفرق بين الكلمة الكاملة، وغير الكاملة هو كالفرق بين البرق والبق!» أما الثاني فهو ابتعاده كصحافي عن «الادلجة»، فالصحافي يقدم للناس ما يراه ويراقبه من أحداث ولا يتحول إلى داعية، فذلك عمل السياسي.

قصة حياة الستر كوك هي تقريبا قصة القرن العشرين في الغرب، فقد ولد في العام 1908 في سالفورد قريبا من مدينة مانشستر، قلب بريطانيا الصناعي، ثم انتقلت العائلة إلى بلاكبول، وكان اسمه عند الميلاد (الفرد) حوله عندما أصبح تلميذا في كمبردج إلى آلستر. وكان والده يعمل في تشكيل الحديد، وجزء من الوقت متطوعا للدعوة الدينية.

كان كوك تلميذا نشطا وفاز بعدد من الجوائز في جامعة كمبردج، وأسس أول فرقة تمثيل مختلطة في تاريخ الجامعة، ولم يكن أصدقاؤه يتوقعون له إكمال دراسته بسبب شغفه بالفن والتمثيل.

في زيارته الأولى للولايات المتحدة 1932 التي كانت بسبب منحة دراسية، ترك الجامعة وتوجه إلى مدينة السينما هوليوود، وقتها كان مواطنه البريطاني الآخر شارلي شابلن ملء السمع والبصر، وعرض عليه أن يكون مساعدا للإخراج معه أو أن يعطيه دورا في احد الأفلام الكوميدية، ولكن كوك كانت له خطط أخرى.

كان يسعى للعمل كمراسل للإذاعة البريطانية من الولايات المتحدة، ولعب الحظ لعبته فقد قرر مراسل الإذاعة البريطانية وكان وقتها اوليفر بلودين ابن رئيس الوزراء البريطاني ترك الوظيفة كمراسل فني للإذاعة، فكانت من نصيب الستر كوك.

في أكتوبر/ تشرين الأول 1934 قدم الستر كوك أول رسائله إلى المستمعين، التي استمرت 58 عاما، وهو أطول برنامج إذاعي في التاريخ، إذ قال: «إني أعلن أني ناقد فني، وإني أحاول أن اقنع اكبر عدد من الناس أن يشاهدوا أفلاما لها دلالة ومعنى، وأنا أعلن أن ليس لي علاقة بأية شركة للأفلام، كما أني من دون توجه سياسي أو ارتباط طبقي»، وكان إعلانه ذاك بمنزلة دستور سنه لنفسه، وتمسك به طوال عمله كمراسل.

هاجر الستر كوك إلى أميركا في العام 1937 وتجنس بجنسيتها في العام 1941 وعرف في بلاده الجديدة أكثر كثيرا من عدد من السياسيين أو الفنانين من أبنائها، وأصبح نجما في اللقاءت التلفزيونية، وأصبحت شخصيته تنعكس في المسلسلات التلفزيونية، كان اشهرها (الدب) آكل البسكويت، في مسلسل شارع السمسم الذي تحول إلى العربية أيضا.

وإذا كانت الصحافة هي حياته فإن أميركا كانت الفضاء الذي عمل فيه، وقد زار كل ركن في هذه القارة الواسعة، وتعرف على مدنها الصغيرة وأحوالها الاقتصادية والفكرية. كانت فرصته الأولى في الشبكة الإذاعية الأميركية عندما تنازل ادوارد السابع عن عرش بريطانيا لحبه الجارف لأرملة أميركية، فقد تعاقدت معه الشبكة الإقليمية للإذاعة ليقدم لمستمعيها خلفية ذلك الحدث، كونه يعرف الملك ادوارد شخصيا، إذ كان الملك يصفه بأنه يشبه أخاه. وتابع ملايين الأميركيين ذلك الحدث وعرف الستر كوك بصوته المليء بالحيوية، وطريقته السلسة في السرد بكلمات قليلة معبرة، ثم تعاقدت معه صحيفة «الجارديان» التي كانت تصدر وقتها في مانشستر، وتمثل البيئة العمالية التي جاء منها... تعاقدت معه على أن يكتب لها أولا كمراسل من الأمم المتحدة التي كانت تتشكل حينذاك (1945)، ثم كمراسل في الولايات المتحدة، وأصبح القراء ينتظرون رسائله الأسبوعية، كما سجل هو (الستر كوك) وصحافي آخر (مراسل الجارديان في موسكو) أول سابقة من نوعها في تاريخ المراسلين، إذ رفعت عن أسمائهم السرية، التي كانت السائدة في الصحافة قبل ذلك، وهو أمر لا يعرفه الكثيرون من العاملين بالصحافة اليوم، إذ إن المراسلين الصحافيين، حتى قبل خمسة عقود فقط، كانت أسماؤهم تبقى سرية حتى لا يتهموا بأية تهمة تضرهم.

ومع ذلك في عالمنا العربي لايزال كثير من المراسلين يتهمون بـ «الجاسوسية» معاذ الله بسبب إخلاصهم في عملهم.

في أربعينات القرن الماضي كان قراء صحيفة «الجارديان» باستطاعتهم تتبع محاكمة «آلجر هس»، وهو موظف كبير في وزارة الخارجية الأميركية في عهد روزفلت إذ كان متهما بتمرير أسرار أميركية إلى الحكومة السوفياتية، وكان كوك الوحيد من بين المراسلين البريطانيين الذين تعرفوا على أهمية المحاكمة تلك، وأنها مقدمة لعصر صعب، وكان حدسه صحيحا إذ استتبع ذلك عصر الإرهاب المكارثي أو «المكارثية» التي اتهمت الكثير من الكتاب والسينمائيين الأميركيين بالتعاطف مع الشيوعية، وسجن بعضهم وهرب الآخرون كما فعل اشهرهم وهو شارلي شابلن، ونشر كتابه المعروف بعد ذلك «جيل في المحاكمة» العام 1950. كوك كان ناقدا فنيا ومهتما باللغات والطب من بين أمور أخرى، كما ألف الكثير من المسلسلات، بل واخرج أفلاما قليلة بعضها لم ير النور، إلا أن أهم ما قام به هو الكتابة، وله في المكتبة اليوم عدد من الكتب ليست بالضرورة في الفن أو السياسة ولكن أيضا في تاريخ تطور الإنسان. واذكر أن أول اقتراحاتي للترجمة في سلسلة «عالم المعرفة» نهاية السبعينات كتاب لالستر كوك هو تطور الإنسان، إلا أن اشهر كتبه وأهمها هو «أميركا».

كإنسان كان يعرف أخطاءه، وأكثر ما يميزه هو الاعتماد على ذاكرته والحوادث التي مرت من تاريخ أميركا والعالم، يسقطها بشكل متميز على الحوادث التي يعالجها. وكان من بين اشهر أخطائه، في انتخابات الرئاسة الأميركية العام 1948 إذ أعلن يقينا أن هنري ترومان سيخسر سباق الرئاسة، وبعد أربع وعشرين ساعة من نشر مقاله، ظهرت النتائج على عكس ما توقع، فكان يعود إلى الحدث ذاك ليؤكد انه حتى الخبراء يمكن أن يكونوا على خطأ.

صباح كل ثلاثاء، ولمدة أكثر من نصف قرن كان الستر كوك يجلس على المكتب أمام آلة الطباعة المتنقلة، ليكتب «رسالة من أميركا»، يتذكر انه غالبا ما كان يجلس من دون أدنى فكرة لما يريد أن يكتب، خبر سمعه من جيرانه أو نشر في الصحف، حديث مع البقال أو أحد أفراد الأسرة، أو سائق تاكسي، وما إن يستقر على الفكرة حتى يبدأ الكتابة، ثم يقوم بتنقيحها، ويقرأ ما كتبه في استديو ليذاع يوم الجمعة، ويعاد يوم السبت لملايين من المستمعين، الذين كانوا على مر الزمن ينتظرون رسالة كوك من أميركا، السلسلة المشبعة بالمعلومات والبسيطة في التعبير.

كان من اشهر كتبه «الرجال الستة»، وهم من التقى بهم في حياته من المشاهير، ادوارد السابع، شارلي شابلن، فنسكن، بوجارت، استفنسن، وبرنارد رسل، وذاك يذكرني بما أسرّ به الصديق سمير عطا الله ذو الأسلوب السلس الجميل، انه يفكر في كتاب الرجال الخمسة، وهم من عرفهم سمير في الصحافة العربية.

انتُقد الستر كوك بأنه اهتم بالحديث عن صورة أميركا الايجابية، وتقاعس عن صورة أميركا في أشكالها الأقل ايجابية، فقد تجاهل فيتنام كثيرا، كما تجاهل حركة الحقوق المدنية، كل في وقته، ولكنه يجيب عن مثل هذا النقد بقوله: «أنا صحافي ولست داعية»! وبذلك كان يضع المهنة فوق الالتزام

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً