قضية المال العام قضية كبرى، لا يمكن الاستهانة بها مطلقا، فالمال العام الذي هو أيضا في المصطلح الإسلامي «مال الله». هذا المال سال له لعاب الناهبين على طول التاريخ، فقد وجدوا فيه طريقا سهلا للحصول على الغنى والثروة، وخصوصا حين يكون الناهب في موقع الحفاظ على ذلك المال العام. وقلة من الحكام والمسئولين تعففوا عن مثل هذا المال، ولم تتلوث أيديهم به، بل اهتموا بحمايته، والذوذ عنه. في حين نجد أن بعضهم قد وصل الى درجة المليارديرية من خلال شفطه لأموال بلاده، كما فعل ماركوس حاكم الفلبين السابق الذي سرق مليارات الدولات وأودعها خارج بلاده، وكذا ساني أباتشا حاكم نيجيريا السابق، وآخرهم صدام الذي بدّد ثروات بلاده على مصالحه الشخصية وبناء القصور، وعلى الحروب الخاطئة، بل أنه سرق في آخر أيام سلطته مليار دولار نقدا من البنك المركزي العراقي. يقول الصحافي المصري إبراهيم جندي في مقال كتبه في موقع «إيلاف»: «أكد لي الكاتب المشهور محمد حسنين هيكل العام 1992 - وهو لا يتحدث إلا بوثائق - أن الاموال التي تم تهريبها من العالم العربي خلال العشر سنوات الماضية (1981 - 1991) تكفي لهدم وبناء الوطن كله عشر مرات».
كما أن الاحتجاج على سرقة وتضييع المال العام، مال الله كان أحد محاور ثورات قادة الأمة الكبار. فمن منطلقات ثورة الإمام الحسين (ع) واحتجاجاته الرئيسية على نظام الحكم الأموي، أنهم «اتخذوا مال الله دولا» أي أن مال الله تداولوه بينهم من دون رعاية لحق الأمة. والصحابي الجليل الفقيه أبوذر، حين أعلن ثورته الحقوقية كانت قضيته الأولى هي تضييع المال العام للمسلمين، وبحسب رواية البلاذري في كتابه «أنساب الأشراف» وقف بوجه معاوية بعد أن رأى قصر الخضراء الذي بناه الأخير، قائلا له: «يا معاوية، إنْ كانت هذه الدار من مال الله، فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الإسراف».
والأوقاف عموما، وإنْ لم تكن هي مال عام بالمعنى الاصطلاحي، إلا إن لها ارتباطا بالمال العام، من خلال انتقالها من ملكية شخص أو مجموعة أشخاص الى ملك موقوف لدعم مشروع يتسم بأنه لصالح الناس، أو لدعم مشروع ديني أو إنساني على الغالبية. وأصل مشروعيتها ديني وعقلي، ولذلك نجدها في الأمم المختلفة. وقد حث عليها الإسلام كثيرا، لقول الرسول (ص) في الحديث المشهور: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». ومن أبرز مصاديق الصدقة الجارية الوقف. والأوقاف الجعفرية في البحرين على الغالبية متعلقة بالمساجد والحسينيات، أو أوقاف باسم فاطمة الزهراء (ع)، كما توجد أوقاف خاصة بقضايا محددة، كالأوقاف على طلبة العلوم الدينية، والأيتام، أو الوقف الخاص على ذرية معينة.
وقصة الأوقاف الجعفرية قصة طويلة، كنا نسمعها منذ طفولتنا في المجالس، وما يحكى عن ضياعها وإهمالها وسرقة أموالها، ويشار الى البعض بالاسم أنهم وراء كذا وكذا. وظلت الأوقاف تعاني من أزمات ومشكلات، وعلى رغم محاولات بعض رؤوساء وأعضاء مجالس الإدارة لتنشيط الأوقاف وحمايتها، فإن قضايا الأوقاف وأزماتها أكبر من أن يحلها عنصر الإخلاص والاهتمام الشخصي لدى البعض. فهي بحاجة إلى فريق عمل متخصص يعالج مشكلاتها، ويقف لتنظيم أمرها من جديد، ووقف الانهيارات في تنظيمها ومساراتها. وللحق فإن مدير الأوقاف السابق علي الحداد هو أول من دق ناقوس الخطر، بعد إقالته. وهو رجل صاحب خبرة وغيرة على دينه وعلى أموال الأوقاف التي هي بحق من الأموال التي ينبغي التعامل معها بحذر شديد، لأنها أموال مصانة ولها قدسيتها بارتباطها بالقضايا التي تم جعل الوقف عليها. فقد وقف هذا الرجل لوحده أمام تهديدات حقيقية، ليعلن للملأ المخالفات الصريحة والواضحة في موضوع الأوقاف الجعفرية، وبدلا من التعامل الإيجابي مع ما طرحه، تم أخذ الموضوع من قبل مجلس إدارة الأوقاف الحالي بشكل لا يخدم إصلاح ملف الأوقاف. ثم جاء السيدضياء الموسوي من خلال مقالاته ليجعل هذا الملف أمام الشعب بأجمعه، ويكشف من الحقائق ما تشيب له رؤوس العقلاء إنْ لم تكن شابت من قبل، ثم ألقى بالمسئولية على الجميع، وخصوصا العلماء والجهات المتصدية لمثل هذه القضايا المهمة، بل ذهب إلى أوسع من ذلك من خلال تأسيسه لهيئة أهلية مهمتها متابعة هذا الموضوع. والغريب هو سكوت الكثير عن هذا الموضوع وكأن على رؤوسهم الطير. إن قضية الأوقاف الجعفرية لا يمكن أن نمررها بهدوء، فهي أموال موقوفة على مساجد وحسينيات الإمام الحسين (ع). فكيف وصلت الحالة عند البعض أن يستغل هذه الأوقاف لشأنه الخاص، ويتعامل معها كجدار هبيط والعياذ بالله، فيتجاوز القوانين ويضعها في سلة المهملات في ظل غياب الرقابة العامة أو الخاصة؟!
كيف تجرأ قوم على مسِّ أموال الإمام الحسين (ع)، فيتداولونه بينهم بثمن بخس، وبأسعار تعتبر مجانية فيستثمرونها لمصالحهم الخاصة ويستربحون منها عشرات الآلاف من الدنانير، ثم يقدمون إلى الأوقاف دنانير معدودة سنويا، هذا إن قاموا بسداد ما عليهم من مستحقات؟! أو تقدم أراضي الأوقاف إلى أشخاص نافذين ليأخذوها بأسعار بخسة. فيا عجبا والله يميت القلب ويجلب الهم كما يقول الإمام علي (ع). كيف ولِمَ يحدث كل ذلك، ونحن في دولة ينبغي أن يكون القانون هو النافذ فيها، ومن شعب ينتمي إلى أمة الإسلام؟! إن الدولة والعلماء وهيئات المجتمع المدني لا ينبغي لها أن تسكت وهي تشاهد وتقرأ ما يحدث في وضح النهار. إن القضاء الجعفري مدعو إلى فتح التحقيق بدقة في كل مسألة تم طرحها في ملف الانتهاكات للأوقاف الجعفرية، وتوجيه الاتهام العلني إلى العابثين بأموال المساجد والحسينيات واليتامى. فكفى ما جرى
العدد 573 - الأربعاء 31 مارس 2004م الموافق 09 صفر 1425هـ