تضافر عدد من العوامل في طرح مشروع الإصلاح العربي (أو مشروعات الإصلاح في أكثر من بلد عربي). فمن الواضح أن العرب في أزمة عميقة حضارية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية مركبة. لقد فشلوا بامتياز في مواجهة التحديات التي تبعت الاستقلالات. لقد فشلوا في تحرير فلسطين بل تمددت «إسرائيل»، وفرضت الأمر الواقع احتلالا وتطبيعا، فلا احد يجادل في بقاء «إسرائيل»، بل أضحى الجدل الثمن المطلوب لإرضاء «إسرائيل». فشلوا في التنمية، وفشلوا ليس في تحقيق الوحدة العربية، بل في المحافظة على الكيانات القطرية القائمة، وأمنهم القومي مستباح من الولايات المتحدة و«إسرائيل» وحتى بلدان مجاورة مثل تركيا وتشاد، أما الحلم في الحرية وحكم الشعب فقد تبخر وأضحوا يترحمون على الأنظمة الملكية و البرجوازية، وبعد أن جثمت على صدورهم أنظمة استبدادية، دفعت شعوبنا من جرائها أضعاف أضعاف ما بذلته من اجل الاستقلال، أضحت تترحم على الاستعمار وأيامه.
ويكفينا مراجعة تقريري التنمية الإنسانية لعامي 2002 و2003، والذي وضعته نخبة من مفكري وخبراء الأمة، لنكتشف إلى أي درك انحدرنا. ولولا اضاءات هنا وومضة هناك مثل تحرير الجنوب اللبناني وتحرير أسرانا لدى الكيان الصهيوني، لفقدنا الأمل.
لاشك في أن الإخفاقات المتكررة ليست فقط للأنظمة السياسية بل للقوى والنخب السياسية والثقافية، ولمؤسسات اقتصادية ومالية عملاقة مثل شركات النفط والمصارف تجعل من المراجعة أمرا ملحا لا ينكره إلا مكابر. ولكن المراجعة هذه المرة لا تقود تفكيرنا إلى الثورة أو الانقلاب العسكري فقد جربناها وارتوينا بكؤوسها المرة، فلم تجلب لنا إلا حكاما وأنظمة أسوأ من سابقتها، أكثر استبدادا واستغلالا من هنا بدأت النخب الثقافية والسياسية المتنورة تطرح موضوع الإصلاح الجذري للخروج من هذا المأزق.
أما العنصر الثاني، في هذه المرحلة التاريخية، فهو رحيل أربعة من الحكام العرب في المغرب وسورية والبحرين والأردن واقصاء حاكم قطر في فترة متقاربة (95 - 1999) وسقوط نظام صدام حسين في العراق في 9 ابريل/ نيسان 2003م، وقد حل حكام شباب يحملون طموحات التجديد والإصلاح بدرجات متفاوتة. وقد ولدت توجهاتهم الإصلاحية عملية جدل، وطرحت مجددا تجمد الأنظمة العربية لينحصر الحكم في عائلة الحاكم حتى في الأنظمة الجمهورية ما ولد نظاما عربيا هجينا.
العنصر الثالث يتمثل في الانقلاب في السياسة الاميركية بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، فالولايات المتحدة التي ساندت الأنظمة الاستبدادية والمحافظة والرجعية، وجدت نفسها ضحية التنظيمات وعناصر متطرفة ساهمت هي أيضا في دعمها ورعايتها فجأة حدث الانعطاف في السياسة الاميركية فقررت استخدام الحزم مع الأنظمة الصديقة والعدوة، وذلك بالعمل لاستئصال البيئة التي تفرخ الإرهاب والتطرف في نظرها والى جانب حرب أميركا ضد الإرهاب بما في ذلك غزو افعانستان والعراق والإطاحة بنظاميها الحاكمين، فهي تهدد بالإطاحة بأي نظام في العالم الثالث لا يستجيب لمتطلبات استراتيجيها. طرحت الولايات المتحدة إلى جانب «الحرب الكونية ضد الإرهاب» مشروع الشراكة الاميركية الشرق اوسطيه لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبغض النظر عن الرؤية الاميركية فان مشروعها يتطلب أصلاحا عميقا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتربويا خصوصا في هذه الأنظمة، سواء تم ذلك بالإقناع أم بالإكراه أو حتى بالإطاحة بالنظام وتنصيب البديل.
البحرين نموذجا
يأتي المشروع الإصلاحي البحريني في هذا السياق، إلى جانب متطلبات الواقع البحريني بعد تسلم عاهل البلاد الملك حمد بن عيسى آل خليفة الحكم في 6 مارس/ آذار 1999، في ظل مواجهة سياسية وأمنية عميقة غرقت البلاد فيها منذ 1994 بعد أن تعمقت الأزمة السياسية والاقتصادية بعد تعليق الحياة الدستورية في 1975.
طرح الملك حمد مشروعه الإصلاحي على مراحل وهيأ له بانفراج سياسي وأمني تمثلت بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وتجنيس البدون من سكان البلاد، وإتاحة هامش معقول من حرية التعبير والتجمع والتنظيم.
أما الوثيقة المعبرة عن المشروع الإصلاحي فهي «ميثاق العمل الوطني» الذي جرى إقراره في استفتاء عام بتاريخ 15 - 16 فبراير/ شباط 2001 بغالبية 98,4 في المئة.
استهدف ميثاق العمل الوطني التأكيد على القضايا الآتية:
1- شرعية حكم آل خليفة، وتأكيد شرعية مشروع الملك حمد من خلال الاستفتاء.
2- التأكيد على ثوابت المجتمع والدولة كما جاءت في أول دستور للبلاد الصادر في 1973، إضافة إلى تأكيد الحقوق السياسية للمرأة أسوة بالرجل.
3- فتح الطريق للخروج من مأزق تعليق الحياة الدستورية باقتراح تعديل محدود على دستور 73 تصبح السلطة التشريعية بموجبه من مجلسين منتخب يمارس التشريع والرقابة ومجلس معين للاستشارة وتغيير مسمى دولة البحرين لتصبح مملكة البحرين.
وهكذا حدث توافق بعد ازمة استمرت طوال 26 عاما (1975 - 2001) والتفاف لا سابق له حول الملك الشاب إضافة إلى ما جاء في الميثاق فأننا نتلمس ملامح المشروع الإصلاحي الطموح للملك في خطبه وتصريحاته منذ تسلمه الحكم حتى اصدار الدستور الجديد في 14فبراير / شباط2002. ويستهدف المشروع أقامة مملكة دستورية على غرار الممالك الدستورية العريقة في ظل نظام ديمقراطي تعددي راسخ استنادا إلى استقلالية السلطات الثلاث وتعاونها وإصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي وديمقراطي، ووضع حد للتمييز، وتدشين مرحلة من الرخاء والاستقرار يستفيد منها المواطن العربي ويعيد أمجاد البحرين الغابرة.
لقد كان حماس الشعب والقوى السياسية الدينية والديمقراطية الوطنية والنخب السياسية والثقافية عظيما لهذا المشروع الذي جسد توافق الحاكم والشعب. فالقوى السياسية المعارضة من ناحيتها اقتنعت منذ 1992 بنهج الإصلاح وليس الثورة. وعلى رغم المواجهة المريرة طوال 1994 - 1999، والمواقف المتشددة من الطرفين، فقد كانت قناعة المعارضة العميقة بالإصلاح والعودة إلى الحياة الدستورية لذلك ومع صدور أشارات ايجابية من الملك حمد، فقد سارعت المعارضة لمد يدها إليه، ووجهت جماهيرها لتهدئة الشارع واعطاء الفرصة للاصلاح.
حدود المشروع الإصلاحي وآفاقه
بدأ المشروع الإصلاحي بعد الاستفتاء على الميثاق مباشرة ولكن لم تشكل وزارة جديدة لتنفيذ ما جاء في الميثاق وأنيط بولي العهد سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حينها رئاسة لجنة لتفعيل الميثاق، واستعانت بوزراء ومسئولين وخبرات وطنية، واعدت مشروعات لحل المشكلات المستعصية مثل البطالة، وقوانين مثل الصحافة، وديوان الرقابة لكن هذه المشروعات ظلت حبيسة في أدراج الحكومة.
بالمقابل فقد تم تشكيل لجنة تعديل الدستور، وهو ما لا يحتاج إلى لجنة، وعملت بسرية وأشرفت على اصدار دستور جديد في 14 فبراير/ شباط 2002م، وهو ما اعتبرته قوى المعارضة امرا سلبيا بالمقارنة مع الطموحات ومع دستور 1973.
وفي الفترة ما بين صدور الدستور في فبراير 2002 حتى انتخاب مجلس النواب في اكتوبر / تشرين الاول 2002 أصدرت السلطة التنفيذية ترسانة من القوانين المقيدة للحريات، والتي إلى جانب الدستور تضع سقفا منخفضا للنظام الدستوري والديمقراطية.
على صعيد الواقع فالذي تحقق انفراج أمني، وهامش معقول من حرية التعبير والى حد ما حرية الانتظام في جمعيات سياسية والجمعيات الأهلية.
لقد استخدمت الدولة جميع إمكاناتها، وأحدثت تغييرا دائما في مؤسسات النظام الدستوري مثل مجلس النواب والمحكمة الدستورية وديوان الرقابة المالية. فتوزيع الدوائر الانتخابية يتيح للدولة السيطرة على مجلس النواب، ومجلس الشورى المعين صمام أمان للسيطرة على السلطة التشريعية.
ان الجمعيات السياسية عموما كانت في طور النشوء ومنشغلة الى ابعد في ترتيب اوضاعها، وخصوصا انه رافقت مخاض الولادة انشقاقات وصعوبات.
ولكن ما شدد موقف المعارضة هو صدور حزمة من القوانين التي صدرت في الفترة ما بين صدور الدستور في 14 فبراير، والتي افرغت الضمانات والحريات التي ضمنها الدستور، واعطاها الشرعية استنادا الى المادة 121/ب والتي تعتبر جميع ما صدر من قوانين ولوائح واوامر سابقة لانعقاد المجلس الوطني نافذا وصحيحا.
ومن هنا جاء قرار أربع جمعيات سياسية بمقاطعة الانتخابات النيابية في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، والتي جرت بموجب دستور 2002، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون الانتخابات النيابية.
تباينت الآراء في التعاطي مع المسألة الدستورية. فهناك من يرى ان هناك مشكلة دستورية يمكن حلها من خلال تعديل الدستور من خلال السلطة التشريعية الحالية وهناك من يرى ان السلطة التشريعية الحالية بتركبيتها وصلاحياتها والياتها لا يمكن ان تعدل الدستور وان الوحيد القادر على ذلك هو الملك وفي حين يرى البعض ان في دستور 2002 تراجعا عن مكتسبات دستور 1973، فان البعض الاخر يقلل من اهمية ذلك، ويرى التطبيق، ويرجح ايجابية ما تحقق في ظل هامش حرية التعبير الواسع والتصريح بعمل الجمعيات السياسية
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 570 - الأحد 28 مارس 2004م الموافق 06 صفر 1425هـ