يعكس التشدد الأميركي في الأمم المتحدة، ازاء طبيعة القرار المطلوب بشأن العراق توجها أميركيا لحسم الصراع على طبيعة النظام الدولي الجديد تنفيذا لرؤية أميركية امبراطورية، تنطلق من «حق» الولايات المتحدة في لعب دور شرطي العالم.
يبرر المدافعون عن الموقف الأميركي هذا التوجه بالقول: «انه يعبر عن الواقع القائم حيث الفارق الشاسع في ميزان القوى بين قوة الولايات المتحدة والدول الكبرى، فقوتها العسكرية والاقتصادية تفوق قوة الـ 15 دولة الكبرى التي تليها مجتمعة، وان حصتها في الاقتصاد العالمي تساوي الثلث (11 ترليونا من 30 ترليونا). لذا فان من حقها ان تشرف على الوضع الدولي حماية لمصالحها السياسية والاقتصادية وللدفاع عن هذه المصالح في مواجهة تصرفات غير مسئولة تقوم بها تكتلات اقليمية أو دول أو جماعات ارهابية». بينما يرى نقاد التوجه الأميركي من السياسيين والمحليين ان تحرك واشنطن للتحكم في ايقاع النظام الدولي الذي دشنه الرئيس الأميركي باعلانه بُعيد (11/9/2001) ثنائيته الصارخة «اما معنا أو مع الارهاب»، والذي كرسته عقيدته التي تضمنتها وثيقة «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» التي أصدرتها الادارة يوم (20/9/2002) وركزت على:
1- حرية الولايات المتحدة في شن حرب اجهاضية أو استباقية ضد الارهاب أو دول تملك اسلحة دمار شامل.
2- عدم السماح لأية دولة أو مجموعة دول بتحدي التفوق العسكري الأميركي.
3- تفضيل الاجراءات الاحادية والتحرك الاحادي على المعاهدات الدولية والمنظمات الدولية في منع انتشار الأسلحة النووية، تحرك يعكس سلوكا امبراطوريا يتعارض مع القانون الدولي ويشكل انتكاسة خطيرة في العلاقات الدولية بالعودة إلى سياسة الهيمنة والقهر المستند إلى القوة العسكرية أولا وأخيرا. وهذا يمس مصالح الجميع ويبرر انتشار الارهاب والدمار. يقود السلوك الأميركي المنطلق من حقائق القوة، العسكرية والاقتصادية، إلى قلب بنية النظام الدولي القائم، بالسيطرة عليه وتحويله إلى ملحق بالخارجية الأميركية، تحدّد له حدوده ومساراته وتكيف نصوصه وفق الرؤية الأميركية، وهذا سوف يعني سيادة وتكريس انتقائية فجة وكيل بمكاييل، ووضع مبدأ سيادة القانون والعدالة على الرف، أو تتحرك خارج الأطر الدولية المنظمة وتترك هذه الأطر يتلهى بها الحالمون والعاجزون عن ادراك طبيعة اللحظة التاريخية ومتطلبات مجابهتها، والضعفاء الذي يتطلعون إلى صحوة ضمير بعض الأميركيين (التظاهرات والتصريحات المضادة للحرب) علّها تعيد لهم بعض الاحساس بالأمان، بالضغط على الادارة الأميركية واعادتها إلى احترام الأطر الدولية وقوانينها الناظمة حيث ستتحمل دول لها مصلحة في تقييد الانفراد الأميركي عبء مجابهة واشنطن.
سوف يترتب على ذهاب واشنطن إلى الحرب (العدوان) على العراق، بقرار دولي أو من دونه، دفن النظام الدولي، الذي نشأ في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية، واطلاق نظام دولي يستند إلى توازن القوة الراهن، تلعب فيه الولايات المتحدة دور شرطي العالم، برضى العالم أو من دونه، تحدد له نصوصه وأطره، حدوده وسياقاته.
فاذا نجحت واشنطن في أخذ موافقة مجلس الأمن الدولي على قرار بالمواصفات التي تراها، وتنسجم مع مصالحها ومن دون أخذ مصالح الدول الكبرى الأخرى في الاعتبار أو بالتعارض مع بنية التعاون الدولي السائد، فإنها تكون ألغت عمليا نظام مجلس الأمن الذي عبر عن توازن القوة وألقت بحق النقض (الفيتو) الذي تمتعت به الدول دائمة العضوية في المجلس منذ قيام الأمم المتحدة على انقاض عصبة الأمم، في مزبلة التاريخ.
واذا ذهبت إلى الحرب من دون قرار من مجلس الأمن فانها تكون قد ألقت الأمم المتحدة والقانون الدولي الذي نظم عملها في مزبلة التاريخ، واعادت الانسانية إلى عهد روما القديمة مع فارق مهم في مساحة الجغرافيا البشرية والسياسية والاستراتيجية التي تتحكم بها وبنوعية طرق ووسائل هذا التحكم. في الحالين تكون الولايات المتحدة قد وجهت ضربة قاضية إلى فرصة قيام مجتمع دولي متعدد الاطراف في المدى المنظور.
ان تلافي هذا المصير القائم ممكن ضمن شروط محددة أولها ادراك العالم عموما والدول الكبرى خصوصا خطورة هذا التوجه على الجميع حاضرا ومستقبلا، وثانيها الاستعداد لمجابهة هذا التوجه الأميركي، دبلوماسيا وسياسيا، والتلويح بجعله مكلفا، ماديا وبشريا، والاعلان عن الاستعداد للذهاب، من أجل دحره، إلى أبعد مدى.
وهذا يستدعي تحركا دوليا جادا وحاسما، لا يخضع للابتزاز أو للمساومات الجانبية، يضع نصب عينه أن مصير العالم رهن نتائج هذه المعركة
العدد 57 - الجمعة 01 نوفمبر 2002م الموافق 25 شعبان 1423هـ