بقدر ما يريبني «صمت» العراق، بقدر ما يستفزني «صراخ» فلسطين. وعذرا أيتها «الأم» الولاَّدة، فلستِ أنت المقصودة هنا، بل جُلَّ أبنائك بمن فيهم «البررة» أما أنتِ فحاشا لله أن أتجاسر عليكِ، وأنتِ التي من حقك علينا أن تُسمعينا صراخك حتى قيام الساعة لهول ما يقع عليك من ظلم وعسف ممتد منذ ما يزيد على القرن ونحن شـركاء في الجريمة ونستحق المزيد من العقاب بين قاصر ومقصِّر.
بالأمس ذهب شيخ هذه الأرض المقدسة شهيدا وشاهدا مسربلا بدمائه فيما لايزال «سيدها» مكبلا في معسكر غوانتنامو الفلسطينية الواقعة في رام الله المحتلة ينتظر الشهادة التي يبخلون بها عليه لحكمة ربانية نجهلها حتى الآن.
ولكن بين العراق وفلسطين ثمة خيط رفيع هو بمثابة الحبل السري الذي يربط بين واشنطن وتل أبيب.
أحمد ياسين علامة فارقة، أو هكذا يجب أن يكون من أجل أن تخرج «المقاومة» العراقية من صمتها وأن تصمت» المقاومة الفلسطينية عن الفضائيات!
لم يعد مقبولا بالمعايير كافة أن يحدث في العراق ما يحدث والمقاومة العراقية تلوذ بالصمت إزاء ما يحدث من خلط متعمد وبالذخيرة الحية وعلى الهواء مباشرة وعبر «الفضائيات» المجندة لخدمة هذا الخلط بين «الإرهاب» والمقاومة. والتفاصيل هنا ليست مهمة على الاطلاق، فالانطباع أقوى من الحقيقة.
كما أنه لم يعد مقبولا على الاطلاق وبالمعايير كافة أيضا أن يتدفق شلال الدم الفلسطيني بين مجازر وحشية جماعية وحرب إبادة شاملة للحياة وعمليات استشهادية قمة في الفداء والشرف في عالم بات يفتقد الشرف والكرامة! والمقاومون الفلسطينيون يتوزعون الفضائيات فصائل وأحزاب وقيادات وكوادر وبيانات وأسماء ورموز وشبهة «كل حزب بما لديهم فرحون» (المؤمنون: 53) تلاحقهم. وهنا أيضا ليس مهما النوايا فالنتائج تقع وبالا على استمرار مسيرة الكفاح والفداء.
المطلوب وبإلحاح استذكار تجربة السنوات التي سبقت العام 1965م بالنسبة إلى الفلسطينيين. والمطلوب استذكار تجربة ثورة العشرين (1920) بالنسبة إلى العراقيين. وليس في ذلك دعوة إلى العودة إلى الوراء على الاطلاق.
أعرف أن الكثيرين سيقولون: «إن أهل مكة أدرى بشعابها». وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن «مكة» تشعبت واتسعت طرقاتها والحبل السري الممدود بين العراق وفلسطين يتطلب إعادة النظر في أساليب العمل السري في العراق وأساليب العمل السري في فلسطين. وما يشفع لكاتب هذه السطور أنه يستطيع الزعم بأنه من «أهل مكة» مع بعض التسامح وبعض «التجاسر» المحمود!
أعرف وأقرّ من صميم عقيدتي وقلبي بأن قضايا الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الأقوام من كرد وتركمان وآشوريين وغيرهم، هي من القضايا الملحة لشعوب وأمم عالم المشرق الكبير، وأن ساعة الحقيقة الديمقراطية والإصلاح والتنمية الحقيقية والواقعية قد أزفت فعلا ولا مجال لتأخيرها بحجة أن الوطن أو الأوطان في خطر، لكن ما يجب أن نعرفه جميعا أيضا وبإلحاح ليس أقل من إلحاح القضايا الآنفة الذكر، هو أن الحبل السري بين العراق وفلسطين مصمم على تحطيم «العائلة» برمتها بأمها المظلومة «فلسطين» وأولادها القاصرين والمقصِّرين و«سيدها» أو سادتها الاستبداديين أو اللاديمقراطيين ولن يستثني أحدا أو يغفر لأحد مطلقا. وكلما تهاون أحد أوتساهل أو أبدى «اعتدالا في مقاومة مشروع الحبل السري بين العراق وفلسطين تسارعت حركة السكين باتجاه رقبته.
إنهم يطلقون النار على مدرسة الاعتدال كلما لاح في الأفق حل لأية معضلة. إنهم يعسكرون الفضاءات والأجواء بكل السبل والأساليب الممكنة حتى ولو اضطروا إلى إطلاق النار على بعض عازبيهم وأنصارهم الصغار عند الضرورة. أو توجيه الضربات إلى بعض مصالحهم أو مصالح حلفائهم، وهذه سياسة يعرفها أهل الاختصاص منذ أن وُلدت فكرة «حق التضحية بالأخ» التي قامت عليها مشروعات تأسيس الدولة الأميركية الأولى والكيان الصهيوني في فلسطين فيما بعد.
لذلك، فالمطلوب من العراقيين الخروج من دائرة الصمت والمطالبة بإلحاح لاستعادة العراق المسلم والعربي طبعا غير «المؤدلج» وغير «العرقي» بل عراق بلاد الرافدين المتسامح مع الأهل أولا والمحيط ثانيا والشديد كل الشدة مع العدو المقبل من بعيد.
بالمقابل، فإن المطلوب من الفلسطينيين النزول تحت الأرض تماما والتزام «الصمت» الفضائي بعض الشيء وإعادة تشكيل المقاومة الفلسطينية في إطار «حركة المقاومة الشعبية الشاملة» التي تذوب فيها الفصائل والأسماء والرموز والكوادر من أجل قهر المشروع الصهيوني القاضي بالفصل بين سلطة وفصائل مَرة وبين فصيل وفصيل مرة أخرى، وبين معتدل وراديكالي ثالثة وبين وطني وإسلامي رابعة والخلط المتعمد دوما بين المقاومة والإرهاب!
المطلوب إعادة إحياء أجواء الانتفاضة الشعبية الزاحفة على العدو والخانقة لأجواء تنفسه الإقليمية والدولية من دون التنازل مطلقا عن حق الكفاح والفداء والعمل الاستشهادي والضرب بقوة، ولكن بيد الشعب والحركة الشعبية وليس بيد الأحزاب والفصائل. وهذا هو الحل الوحيد ربما في اللحظة الراهنة القادر على تعرية المجرمين والقتلة في تل أبيب وإظهارهم على حقيقتهم كحركة نازية وكيان عنصري مقيت يمارس سياسة الإبادة الشاملة ضد شعب بأكمله، حتى نتمكن من استثمار دماء الشهداء وعمليات التضحية والفداء المتواصلة لشعب فلسطين الصامد في المحافل الدولية وليس التفريط بها في «أروقة» المناقشات العبثية الإقليمية والدولية أحيانا لأن عناوينها فصائلية أو حزبية أو فئوية غير قادرة على الصمود طويلا أو لأنها من «جنس» القضايا القابلة للمتاجرة والسمسرة على يد مصدري بيانات الاستنكار ومحترفي «المقاومة» الفضائية!
باختصار شديد، مطلوب حركة تحرر وطني فلسطينية جديدة تقوم على إعادة بناء من سبقتها
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 568 - الجمعة 26 مارس 2004م الموافق 04 صفر 1425هـ