طرحنا في مقال الأسبوع الماضي في هذا المكان، مجموعة من الأسئلة الصعبة، عن ضرورات الإصلاح الديمقراطي الشامل في بلادنا، ليس فقط ردا على المبادرات الأجنبية المتكاثرة، ولكن في الأصل والأساس استجابة لمطالب وطنية.
وكان من أهم الأسئلة هو سؤال عن كيف نجري الإصلاح بأيدينا لا بأيدي أميركا أو غيرها؟ ما هي أولوياتنا في مجالات الإصلاح السياسي، والثقافي والاقتصادي الاجتماعي، إن كنا جادين فعلا؟
ولقد فعلت مكتبة الإسكندرية العريقة خيرا، حين نظمت مؤتمرا على مدى ثلاثة أيام هذا الأسبوع، هو الأول من نوعه، وشارك فيه نحو 170 مفكرا ومثقفا من جميع الدول العربية، يمثلون ألوان الطيف السياسي والفكري والأيديولوجي، يميل معظمهم بحكم الفكر والموقف نحو الاستقلالية عن السياسات الحكومية وتعليمات الأجهزة البيروقراطية الحاكمة، الأمر الذي شجعنا على المشاركة بحثا عن أرضية مشتركة مع هذه النخبة التي تمثل كريمة المجتمعات العربية، إن جاز التعبير، بل بحثا - أيضا - عن إجابة واضحة عن الأسئلة الصعبة التي سبق أن طرحناها...
والواقع أن نخبة المفكرين والمثقفين اندمجت في حوارات معمقة بشأن محاور المؤتمر الأربعة، وهي الإصلاح السياسي والمؤسس، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الثقافي، وصولا إلى إصدار وثيقة أظن هي الأحدث من نوعها، التي يصدرها مثقفو المجتمع المدني، وليس مثقفو السلطة، والتي عبرت بدرجة هي الأكثر وضوحا في حياتنا المعاصرة عن آراء ومواقف صريحة، تجاه ضرورات الإصلاح الديمقراطي الشامل، وحتمية إجرائه الآن قبل الغد، وبأيدينا لا بأيدي الآخرين...
ومن باب الأمانة، نذكر أن محاولات جادة في هذا الاتجاه سبقت مؤتمر مكتبة الاسكندرية - وشاركنا كذلك في معظمها - ركزت منذ سنوات على الموضوع عينه، وخرجت بعد تشريح الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي العربي، بكثير من التوصيات، التي لو تشجعت الحكومات العربية وعملت على تطبيقها بأمانة، لربما كنا تجنبنا كثيرا من حالات التدهور العام الذي نعانيه اليوم، ولربما أيضا كنا تفادينا الضغوط الأجنبية ومبادرات - إصلاحات - الإصلاح المتدفقة علينا اليوم من أوروبا وأميركا، ولكن تكبُّر الحكومات على الشعوب، وفلسفة احتكار السلطة والحكمة، مارست سطوتها المعروفة والمشبعة بالاحتقار لكل ما يأتي من جماعة المثقفين وصالونات المتكلمين!
ولعلنا نتمنى اليوم ألا تلقى وثيقة مؤتمر مكتبة الاسكندرية، المصير نفسه، وإن كنا نشك لاختلاف الظروف وكثرة الضغوط المطالبة بالإصلاح الديمقراطي، سواء الضغوط الخارجية، أو الضغوط الداخلية، التي تمثل هذه الوثيقة واحدة من أهم أدواتها الحديثة، مثلما تمثل وصفة وطنية وقومية لمواجهة استحقاق التغيير والتطوير والتحديث، الذي أصبح مطلبا شعبيا واسع النطاق، في مواجهة حالات الاحتقان التي تخنق الجميع.
وانطلاقا من ذلك فقد أصبح السؤال الذي نطرحه من جديد، هو السؤال الأصعب، ونعني هل تستجيب النظم العربية المأزومة والمحاصرة بالضغوط الأجنبية، للمطالب الشعبية الواردة في الوثيقة، أم ستعاند وتكابر إلى أن تعود الضغوط الأميركية والأوروبية تدق الرؤوس دقا لا يرحم ولا يبقي على رأس كبير أو صغير إلا وسحقه، بوصفتها المعلبة وإملاءاتها المشروطة وتداخلاتها الاستعمارية الهاجمة بغير استئذان ولا حتى مراعاة لسيادة الدول؟!
*****
وعلى رغم أهمية محاور الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الثلاثة، فإن المحور الرابع للمؤتمر، وهو محور الإصلاح السياسي والمؤسس استحوذ على معظم اهتمام المشاركين، ليس فقط لجاذبيته، ولكن أساسا لاقتناع عام بأن المدخل الحقيقي للإصلاح الديمقراطي الشامل، هو الإصلاح السياسي في بنية النظم الحاكمة وفلسفتها التي قامت - للأسف - على الفردية والاحتكار وادعاء الحكمة والقدرة على اتخاذ القرار من دون مشاركة «الرعايا»، الذي ينوب الراعي وحده عنهم في تقرير المصائر، نيابة الأب عن أطفاله غير البالغين ناقصي العقل والدين!
الآن، في ظل ثورة الديمقراطية والحرية والعلم والمعلومات وتكنولوجيا الاتصال، التي تسود العالم، تحولت مجتمعات متهورة سياسيا واجتماعيا إلى مجتمعات ديمقراطية، لم يعد في مقدور نظمنا الحاكمة استمرار الادعاء بنيابة غير منتخبة شعبيا، عن رعايا غير واعين وأطفال غير عاقلين، ولم يعد مقبولا من الرعايا الاستمرار في تسليم الأمور بلا وعي أو استسلام الأبناء بلا إرادة، إنما أصبح الجميع أسوياء يطالبون بحقهم في المشاركة الديمقراطية الحقيقية وليست المزيفة.
وكما تقول وثائق المؤتمر فإن «الديمقراطية، أي وجود حكومة منتخبة من قبل الشعب لخدمة الشعب، هي الوسيلة والهدف الذي يرجوه كل المواطنين، والديمقراطية مكون أساسي لتطور أية دولة، وعلى رغم أن النمو الاقتصادي قد يتحقق في ظل الحكم الفردي، فإن التقدم الحقيقي يتطلب المشاركة والتفاعل والتغيير على نطاق واسع لا يمكن أن يتحقق إلا بموافقة المحكومين».
ولذلك يتسم الحكم السليم بالشفافية والمسئولية والتعددية المؤسسية، كما يتسم بالمشاركة وسيادة القانون وحرية تدفق المعلومات، فهذه هي المفاصل الأساسية التي تضمن البداية الجدية للإصلاح، وتشير إلى تخلي السلطة عن احتكاراتها المعهودة، واستعدادها لتنفيذ آليات التداول السلمي في إطار القانون والشرعية.
وعلى رغم أن هذه - كلها - المبادئ المستقرة تاريخيا وفكريا في الأدبيات الديمقراطية المتوارثة عالميا، فإنها تعتبر في الواقع من المبادئ الجديدة في ثقافتنا السياسية، تأتي اليوم لتحاول أن تضع حدا لثقافة مناقضة ساومت حياتنا على مدى قرون، وقامت على احتكار السلطة والثروة والحكمة وصنع القرار، وبالتالي نفي المشاركة واحتقار إرادة الشعب واختياراته، وترجيح أهل الثقة على أهل الخبرة، وتفضيل المؤيدين والمنافقين على المعارضين والمستقلين بالرأي والموقف.
ومن ثم فإن تطبيق هذه المبادئ الديمقراطية الحقيقية في مثل مجتمعاتنا، يحتاج إلى ثورة فكرية ونهضة ثقافية حقيقية، تغير العقول الحاكمة والمحكومة، وتنبع من «قلب حركة المجتمع، من مراجعة الذات ونقدها، وإعادة النظر في مفاهيمها وطموحاتها في ضوء التحديات التي تواجهها...».
*****
ولعلنا نشير بهذا إلى ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظومة الثلاثية، التي تشكل العقل وتصنع الوجدان وتصوغ الأفكار والمواقف، ونعني منظومة التعليم والثقافة والإعلام، تلك التي تعاني اليوم من قصور واضح وتخلف هائل، في ظل هيمنة الدولة واحتكارها وسياساتها المنفردة، التي لا مثيل لها إلا في الدول الأكثر تخلفا، الأمر الذي لا يكابر فيه إلا مكابر يعادي التطور والحرية.
صحيح أن إصلاح هذه المنظومة المركبة، يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير، لكن الصحيح أيضا أن الإصلاح السياسي الديمقراطي، يجب ألا ينتظر أو يتلكأ، كما حدث في الماضي بحجة الصبر حتى يحدث التطور الطبيعي، فقد أضعنا قرنا كاملا في الانتظار والصبر - بينما العالم يجري من حولنا - تحت ذرائع مختلفة وحجج مختلقة، فأجلنا خطط التنمية الشاملة بحجة مقاومة الاستعمار، واستبعدنا تطبيق الديمقراطية بحجة تكريس الجهد لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، ورفضنا مطالب شعوبنا بالتطوير والتحديث وإطلاق الحريات بحجة أن شعوبنا قاصرة جاهلة إن حصلت على الحريات انفلتت إلى الفوضى وغرقت في الكوارث وانطمست في الصراعات!
والنتيجة الرهيبة، أننا صحونا على بدايات قرن جديد، لنكتشف أننا لم نحرر فلسطين، ولم نتحرر من الاستعمار الذي عاد بكل ثقله، وفي الوقت نفسه لم نحقق تنمية حقيقية تقاوم الفقر والبطالة والتخلف، ولم نطبق ديمقراطية سليمة تقاوم الفساد والاستبداد، فإذا بكل ذلك يستدعي تدخل الأوصياء الأجانب ليفرضوا علينا الوصاية باسم الإصلاح الديمقراطي.
ولأن الأمر كذلك، فلم يعد من صالح الحكام والمحكومين، الاستسلام لهذه الورطة التاريخية، بل إن الصالح لهؤلاء وأولئك، يمن في المبادرة بإصلاح البيئة من الداخل وبأيدي أبنائه وفكر عقلائه من أبناء المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، من أمثال الذين جمعهم مؤتمر مكتبة الاسكندرية التاريخية، في محاولة جادة لوضع إجابات صعبة عن الأسئلة الأصعب.
وعلى رغم أهمية وجدية الوثيقة الصادرة من هذا المؤتمر، فإن العبرة تبقى بجدية تنفيذها ومدى استجابة الحكومات لما جاء فيها، وهو أمر انقسم بشأنه المشاركون، بين فريق متشائم يرى ألا أصل في أن تبادر الحكومات إلى التنفيذ، وأنها حتى لو استجابت فهي استجابة ستكون شكلية ومراوغة، حتى تنجو من ضغوط الخارج والداخل على السواء، وفريق متفائل قال إن حكوماتنا في ظل المناخ الدولي أصبحت أكثر رشدا، وأكثر استعدادا لتجرع الدواء المرّ وقبول التحدي الصعب.
فهل نخاطر إن قلنا إن رأي الفريق الأول هو الأرجح؟... نتمنى أن نكون مخطئين.
*****
خير الكلام:
قال تعالى: «كلا إن الإنسان ليطغى، أنْ رآه استغنى» (العلق: 6)
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 562 - السبت 20 مارس 2004م الموافق 28 محرم 1425هـ