في مناسبة طيبة غير مسبوقة، ومن أجمل المناسبات الأكاديمية الرفيعة التي تحتفل بالانسان المبدع كان لنا لقاء محبب ينطق بالحب والوفاء والعرفان، وبالتكريم والحفاوة واللقاء... لقاء استمد منطلقه الريادي من الفكر والابداع ومن العطاء والانتاج المميز، لقاء هو الأول من نوعه على ما أعتقد في منطقة الخليج وفي جامعة خليجية... اقامة ملتقى متخصص مرتبط بالفكر والعطاء، هو الملتقى الفكري الأول للأخ العزيز محمد جابر الأنصاري، الذي أقيم في جامعة الخليج العربي بالسلمانية في يوم السبت 15 محرم 1425 هـ الموافق 6 مارس/ آذار 2004م لمناقشة فكر محمد جابر الأنصاري، والتفوق في انجازاته وابداعاته وسيرته الذاتية، وذلك بمناسبة إقامة أول ملتقى فكري تقيمه جامعة الخليج العربي تقديرا وتكريما لرواد العلم والفكر في العالم العربي، الذي تحدثت عنه رئيسة جامعة الخليج العربي رفيعة عبيد غباش في قولها عن واحد من هذه النخبة العربية المتميزة من المبدعين: «ولأنني أؤمن بوحدة الكون، وقوانينه ونواميسه، فإنني أبين لطلابي أن منحنى التوزيع الطبيعي للرسم البياني هذا، ينطبق على البشر كما هي الحال بالنسبة إلى الجزيئات، فغالبية الناس يعيشون في وسط المنحنى، وهناك نسبة ضئيلة تسكن في الأطراف البعيدة، وهؤلاء هم الذين يقعون في الطرف البعيد ذي الخاصية المرتفعة، هم الذين يصنعون التغيير ويحققون الطفرة... فالذين يتمتعون بالصحة الموفورة هم الذين يحققون البطولات الرياضية، ويحطمون الأرقام القياسية، والذين يتمتعون بالحماس المتقد، هم الذين يحطمون الأصنام، ويصنعون الثورات، وهؤلاء الذين يتمتعون بالرؤية الثقافية هم الذين يصنعون التوجهات الثقافية والطفرات الفكرية ويغيرون توجهات المجتمع... ومحمد جابر الأنصاري أحد هؤلاء البشر الذين يسكنون في الطرف البعيد للمنحنى الطبيعي حين يكون قياسنا للفكر والثقافة... وأزعم أنني عرفت محمد جابر الأنصاري معرفة وثيقة قبل أن أراه، لم أعرفه مديرا أو عميدا بل عرفته كاتبا ثاقب الرؤية، متقد البصيرة واضح البيان، ساهمت كتاباته في تشكيل الفكر الفلسفي والسياسي للجيل الذي انتمي اليه، وحين شرفت بالقدوم الى جامعة الخليج العربي سعدت بلقائه الشخصي، والحديث معه ورحب بي ترحيبا هادئا دافئا، كشف عن طبيعة انسانية جميلة وروح ودودة، وأهداني هدية غالية هي بعض كتاباته الرصينة وخط بيده اهداء رقيقا اعتز به مرحبا بي في الجامعة وفي البحرين».
الأخ العزيز محمد جابر الأنصاري من الشخصيات العربية المتميزة التي أعطت الكثير في ميادين كثيرة مختلفة ارتبطت بالخليج العربي، والعرب والعالم والسياسة والفكر والأدب واكتشاف التراث والدولة القطرية ومغزاها بالاضافة الى الصراعات والأضداد... وله الكثير من المؤلفات التي تحظى باطلاع عربي عبر بلدانه المشرقية والمغربية. من التأزم السياسي عند العرب، إلى الرؤى القرآنية للمتغيرات الدولية... ومن التفاعل الثقافي بين الغرب والشرق الى تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ومن الأسئلة عن العمالقة... هل فعلا كانو عمالقة؟... الى مساءلة الهزيمة... والناصرية بمنظور نقدي، انه انسان واسع الاطلاع والمعرفة، ثاقب النظر، محلل واثق بمرئياته واستنتاجاته وتخيلاته، عاش بين طلابه وزملائه وأصدقائه المبدعين في الجامعة وفي الملتقيات الثقافية والأدبية، وارتبط بالانفتاح الهادف المميز وبالفكر الواسع الطليق والعميق... تعرفه من خلال كتاباته المميزة عبر الصحافة العربية في الكثير من أقطارها، وتندمج مع تحليلاته الفكرية والأدبية بمنطلق العالم المتحضر الذي يعيش يومه الحاضر، لا ينسى الماضي بانجازاته وعطائه وحضاراته، وفي الوقت نفسه يعيش العصر الذهبي الذي تعيشه الشعوب المتقدمة في الألفية الثالثة من اليابان في المشرق الى المانيا وفرنسا في المغرب، تعلم اللغات ليرجع الى النصوص الأصلية في مراجعه التي يعتمد عليها في الكتابة، ومحمد يتكلم ويكتب بثلاث لغات هي العربية والانجليزية والفرنسية وعندما رأيته في أحد الأيام مع السفير الياباني في حديث هامس متفاعل... فاجأته بسؤال لم يتوقعه... وهل تخطط لتعلم اللغة اليابانية... فأجابني بابتسامة أخوية صادقة... أنا أعرف بعض المقاطع المهمة من اللغة اليابانية... وقد أكد هذا الكلام السفير المحترم، فهل نتوقع من يكون أستاذنا الكريم؟ باحث في الآداب العربية واستاذ اللغات الغربية ويتعلم التقنية اليابانية عبر اللغة اليابانية... وهذا بطبيعة الحال ليس صعب المنال على محمد جابر الأنصاري.
ولقد سعدنا وكل من حضر ملتقى الأنصاري الفكري الأول للعام 2004 في جامعة الخليج العربي بتقديم السفير المصري محمد عبدالجواد، عندما سلم المفكر المبدع محمد جابر الأنصاري شهادة التكريم المقدمة من الفنان فاروق حسني لكتابه الصادر عن دار الأهرام المصرية بعنوان (تحولات الفكر والسياسة) كأفضل كتاب للعام 2003م. وقد تحدث السفير بهذه المناسبة في كلمة مرتجلة عن فكر وعطاء الأنصاري فقال: «هناك الكثير من المفكرين والمبدعين في عالمنا العربي وقد كان عطاء طه حسين من العطاءات المتميزة في الآداب العربي، فلقب في العالم العربي بعميد الأدب العربي، وعطاء استاذنا المتميز في الفكر المستنير يجعله عميدا مميزا للفكر العربي».
ولمعرفة محمد جابر الأنصاري عن قرب لا بد لنا من وقفة مع نائب رئيس جامعة الخليج العربي رياض يوسف حمزة إذ قال في كلمة التكريم: «حين بلغ الأنصاري غايته من التجوال والترحال في سماء العروبة وأوطانها وفي مواطن العلم والمعرفة، آخذا من كل بنصيب عاد يبدأ رحلة العطاء والابداع الثانية، يرتب أوراقه وينظم ما اختزن في عقله ووجدانه ليبدأ الاسهام الحقيقي في الفكر العربي الاسلامي المعاصر. ولقد كانت عودته تصادف تأسيس جامعة الخليج العربي هذا المشروع العلمي الطموح فكان المكان الملائم لرجل مفكر يتطلع الى تحقيق مشروعه اسهاما فكريا في هذا الزمان العربي الصعب، وأي مكان أكثر ملاءمة من جامعة راقية تحمل من الطموح ما لا يقل عن طموح الانصاري، فكانت المكان الذي استقر فيه وفيه ابتدأ من جديد والثقافة بدء دائما والمثقفون يبدأون كل يوم، وفي فضاء جامعة الخليج الرحب بلغ الأنصاري رتبة الاستاذية وولي فيها عمادة البحث العلمي سنوات طوالا، وأسس مقررات الثقافة الاسلامية وحاضر فيها فاقتسم طلاب الدراسات العليا في جامعة الخليج أفكاره وأطروحاته عن الحضارة الإسلامية وثقافتها.
ولم يكن من الممكن أن تمر جهود الأنصاري من دون أن تلتفت إليها العيون وتستدير لها الرؤوس، ونتيجة لمشاركته في وضع الخطة الشاملة للثقافة العربية، فقد كرمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في العام 1987 بمنحه الميدالية الذهبية الكبرى، وكان كتابه (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 - 1970) قد فاز بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي العام 1981م بمعرض الكويت السابع للكتاب العربي في حقل الفنون والآداب والإنسانيات. ولقد اختير محمد جابر الأنصاري عضوا في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومستشارا ثقافيا وعلميا بديوان سمو ولي العهد القائد العام لقوة دفاع البحرين، ومن ثم المستشار الثقافي والعلمي لجلالة ملك مملكة البحرين حمد بن عيسى حفظه الله، فكان ذلك النموذج الحضاري للعلاقة المتميزة والصحيحة بين الثقافة والسياسة. وفي العام 1989 نال جائزة الدولة التقديرية في البحرين وكان أول بحريني من جيله ينالها، كما نال في العام ذاته وسام التكريم لدول مجلس التعاون في العام 1989، وفي العام 1998م قدمت له جائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والإنسانية، كما منحته رابطة الكتاب الأردنيين جائزة منيف الرزار في الدراسات والفكر العام ,,1997. وقد نظم الأنصاري مشروعه الثقافي من خلال أولويات، فالتفت إلى الدائرة الأصغر، البيئة المحلية، البحرين، وبدأ يحفر في تاريخ البحرين الثقافي، يصنف، ويحلل، ويستنتج، ثم نظر في الدائرة الأوسع فكانت المنطقة المحيطة موضوعا تناول أطرافه، وأعماقه، واتسعت الدائرة فكان الوطن العربي، مشرقه ومغربه، منها أن الحضارة مهاد ضروري للوحدة بين أجزاء الوطن العربي. ولأن الأنصاري يستقرئ الحوادث ليصل إلى النظريات الكلية، فكان يلتمس الخصائص الدقيقة للآفاق المختلفة، ويرى أثرها في الظواهر المصيرية، وكان جريئا في طرح الأسئلة الجسورة تمهيدا للإجابات الأكثر جسارة... اهتم الأنصاري بالمحورين الأساسيين في سيرة الكون، وهما الزمان والمكان والجدلية بينهما، وقاده ذلك إلى أن وجد في المكان وخصائصه دلالات تفسر التاريخ السياسي والاجتماعي، بل وله اجتهادات أصيلة في فهم الجغرافيا السياسية ولاسيما في الوطن العربي».
والأخ محمد جابر الأنصاري متميز الأداء والأفكار، عاش حياته حرا طليقا منفتحا بين الكثير من العواصم وخصوصا عواصم النور والانفتاح فكان في لندن وباريس وبيروت والبحرين والجامعات العريقة، وخصوصا الجامعة الأميركية التي تخرج فيها بدراسته الأولى، وهو دائما في حله وترحاله متطلع باحث منتج ساع وراء العلم والحقيقة، وباحث عبر الكتب والدواوين والمكاتب ليتعرف على الأفكار والمنطلقات المعروفة والمتداولة، وليتفهم الانتاج العالمي في الأدب والتقدم الحضاري، إنه من الشخصيات التي اهتمت بالثقافة الإسلامية وإبداعاتها، وله دوره المميز في الابتعاد عن الوعظ والخطابة والتركيز على مضمون الحضارة الإسلامية وإبداعاتها واهتم بهذه المادة المقررة على طلاب الجامعة فأعد عبر مناهج البحث العلمي والمساءلة العقلية والتفرغ الفكري الاجتهادي الذي اشتمل عليها تراثنا الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه.
ولقد اهتم باللغة العربية فأعطاها جل اهتمامه، إذ يقول عن اللغة العربية: «كانت العربية قد عرفت نماذج النثر الفني منذ أزمان، ولكن ما سمي كتابة جديدة جاء أصحابه بما أسموه (قصيدة النثر) وهي أصداء باهتة لذلك النثر الفني ليتها بلغت مستواه، وقيل لنا إن هذا هو (الشعر الجديد) وهو نصوص قصرت عن مواصلة حركة الشعر الجديد حقا والذي مثله السياب والبياتي وحاوي، والأدهى من ذلك ليس تكاثر تلك النصوص، ولكن تحولها إلى مقررات دراسية وموضوعات للماجستير والدكتوراه في جامعتنا العربية كنماذج للشعر الجديد والكتابة الجديدة، بما يتهدد بإفساد سليقة النشء إن لم يفسدها فعلا، إنني من فوق هذا المنبر الجامعي أنبه إلى خطورة هذا التدهور التعليمي والبحثي في جامعتنا العربية وأدعو إلى وقفة مراجعة مسئولة بشأنه... وإذ ان هذه الكتابة لا يضبطها ضابط ولا يمكن تقديم أصول للإبداع حتى من داخلها، وهو شرط حيوي لأية كتابة إبداعية جديدة، والمحك الحقيقي لإبداعها، فقد صاحبت هذه الكتابة مدرسة نقدية تسربت إلى الجامعات، ونسميها مدرسة مجازا... تزعم إمكان أي تفسير لأي نص بدعوى تعدد القراءات المفتوحة، وهي فكرة خطيرة على العلم نعتقد أنها بحاجة شديدة إلى ضبط منهجي مسئول... إن تفسير الشعر والنثر الفني برؤى متعددة لا حصر لها إلا بعدد قرائها هو ما تم قبوله في النقد العالمي من قديم، إلا أن الكتابات الأخرى في العلوم الطبيعية والاجتماعية ليست من النوع ذاته، وهي الأقرب إلى الحقيقة العلمية باثباتات وشواهد من داخلها أو بما تحاسب عليه، وإما أنها بعيدة عنها بالتقويم ذاته، أما فتحها بالإطلاق لمختلف القراءات الذاتية فعبث لا يوصل إلى يقين معرفي ويشوش الرؤية، وخصوصا إذا تم تدريسه في الجامعة بهذه الصفة، فما قيمة أية نصوص من التراث الإنساني دينا وفلسفة واجتماعا وتاريخا إذا كانت تعني لا شيء وتعني كل شيء بحسب مزاج قرائها، وكيف يمكن الحكم على فهم الدارسين لها موضوعيا وعلميا قبل كل شيء من دون الاعتراض على فهمهم الذاتي للنص إن وجد، ولكن بعد القراءة الموضوعية للنص التي تعطي العلم حقه».
ووقفة أخيرة مع أستاذنا الكريم وفكره النير، تبين لنا مشروعه الفكري الذي ينطوي على بعدين، كما قال في كلمة الاحتفال على النحو الآتي «أكتفي في هذه الكلمة بالقول إن مشروعي الفكري ينطوي على بعدين: البعد الأول دراسة الواقع المجتمعي العربي في امتداده التاريخي إلى عصرنا باعتبار هذا الواقع تشكيلة علم الاجتماع السياسي العربي وما يفرزه حكما ومعارضة، يتمثل هذا البعد في الكتب الثلاثة: الإسلام، والعرب والسياسة: أين الخلل؟ أما البعد الثاني فيتمثل في دراسة البنية الذهنية الفوقية، أي التشكيل الفكري النظري لذلك الواقع متمثلا في كتاب الفكر العربي وصراع الأضداد، وتحولات الفكر والسياسة، ومساءلة الهزيمة، وذلك ما سيتناوله حضرات المعقبين، ويهمني سماع مداخلاتكم الجادة بشأنه، إن أخطر ما يتهدد أية ثقافة أن تكون ثقافة الكتاب الواحد، أي ثقافة الصوت الواحد، بكل تبعات هذه الأحادية المستبدة والمؤدية إلى خنق تفتح العقل والحياة وإجهاض خيارات التقدم، وعلى الجامعات بحكم مسئوليتها عن حماية التعددية العملية لمصادر الحقيقة وأصول المعرفة ضد الاختزال والتبسيط المخل، ان تتصدى لهذه الثقافة الأحادية وان تحد منها لا أن تحتضنها وترضخ لها، بل ان أية جامعة تعتمد فلسفتها التعلمية والبحثية على المرجع الواحد تنفي مبرر وجودها من الأساس، إن الجامعات في الغرب لم تكتسب مبرر وجودها مطلع العصر الوسيط إلى بعد أن استطاع بعض أساتذتها من رجال الدين المتحررين أنفسهم إدخال كتاب ابن رشد ممثل العقلانية الإسلامية، وإلا لما نشأت جدلية العقل والإيمان ولما انقدحت شرارات الفكر المؤسس لنهضة أوروبا الحديثة».
وتحية من القلب أرسلها عبر الكلمة الطيبة لشخصية عربية متميزة، أغنت الثقافة العربية، وربت أجيالا عربية خليجية متميزة في حبها للحضارة الإسلامية ومنهاجها البحثي والعلمي، وارتباطها بالتنوع الفكري والاجتهاد المفتوح، في جامعة خليجية متميزة تقدر الإنسان وفكره، وانفتاحه الذي نتج عنه تكريم سنوي لهذه الشخصية المتميزة، فستكون لنا بمشيئة الله لقاءات سنوية مستدامة مع أخينا محمد جابر الأنصاري، ليستمر عطاؤه ليثري المكتبة العربية والفكر العربي الحر الطليق بانتاجه الغزير
العدد 560 - الخميس 18 مارس 2004م الموافق 26 محرم 1425هـ