نشأ مصطلح المجتمع المدني بشكله المحدد، والدعوة إلى اقامته، في اوروبا في القرن السابع عشر، كما يفيد الباحثون والمؤرخون... وهو يعبّر عن ظروف النشأة وفلسفتها النظرية.
فالمعروف أن أوروبا كانت تعيش في عصر الظلام والاضطهاد السياسي والفكري الذي تمارسه الكنيسة والاقطاع والنبلاء والملوك والاباطرة... وكانت المجتمعات حينها تخضع لارادة الحاكم المستبد، وارادته هي القانون. والمجتمع والسلطة في تلك الحقبة التأريخية، لم يكن ينظم سلوكهما قانون، وإن وجد فلا سيادة له، والانسان خاضع لإرادة الحاكم، ولا حرية ولا حقوق إلا ما تفضل بها عليه.
ومع بداية النهضة السياسية، والمناداة بحقوق الانسان في اوروبا، تقدم رواد الفكر والنهضة الاوروبية الحديثة بنظرية المجتمع المدني ونشأ هذا المصطلح، فكتب في ذلك هوبز وروسو ولوك وهيغل وماركس، وآخرون غيرهم من مفكري أوروبا ورواد نهضتها الحديثة، كل في مرحلته، ونظّروا لهذا المجتمع.
وكان الحديث عن المجتمع المدني قد اختفى بعد قيام الحضارة الاوروبية الحديثة، ثم نشط الحديث عنه كما نشط التنظير له في الحقبة الاخيرة...
وهذا المجتمع المدني، من حيث ظروف نشأته ومحتواه الذي تشكل الفلسفة المادية العلمانية - التي لا تؤمن بالغيب وتفصل الحياة عن الدين - والليبرالية - التي تركز على اهمية الفرد وضرورة تحرره من كل انواع السيطرة والهيمنة - والديمقراطية الغربية - التي تعني حاكمية الشعب على نفسه، وتشريعه لنفسه في جميع جوانب الحياة - الاركان الاساسية لهويته وحقيقته.
هذا المجتمع المدني لا ينسجم مع منطلقات الاسلام ومبادئه، وأسس الحياة السياسية والاجتماعية عنده، بل يتناقض معه، وهو مرفوض قطعا.
وهذه هي الهوية الحقيقية للمجتمع المدني، المصطلح الذي يبشر به الحداثيون المتغربون. يقول بعضهم: «ان اقصى ما في المجتمع المدني هو ان نصبح نحن البشر قادرين على اتخاذ القرار فيما يتعلق بنمط حياتنا، وألا يكون هناك اي حد لقراراتنا هذه. وانه يمكن ان نقول في حال واحدة فقط ان المجتمع المدني موجود، وهو فيما اذا تمكنا من ممارسة التقنين الاساسي، اي ان نضع نحن القوانين الجذرية فيما يتعلق بأسس حياتنا من ارتداء اللباس وحتى الحياة الخاصة. ولا يمكن القول بوجود المجتمع المدني من دون الحياة الخاصة. فالخطوة الاولى هي ان نكون احرارا في حياتنا، وهو امر يرجع إلى مسألة التقنين البنيوي المتقدم والذي هو اساس الديمقراطية». حسين بشيريه، جامعة مدني وايران امروز، ص 21.
نعم، لو اريد من المجتمع المدني، المجتمع المتمدن المتحضر الذي يحكمه القانون، وتحفظ فيه الحقوق الخاصة والعامة، ويميزه العمل المؤسساتي، تحدد فيه سلطات الدولة، ويعطي للشعب والامة والمجتمع دورا مهما في ادارة شئونه، ومتابعة قضاياه الاساسية... فهذا يؤمن به الاسلام، ودعا إليه قبل غيره من الايديولوجيات والنظريات الفلسفية والاجتماعية... فهذه مصادر الاسلام الاساسية - القرآن والسنة - تطرح بوضوح الاسس والمبادئ التي يبنى على اساسها المجتمع الانساني بكل عناصره الانسانية السامية، والتي دعا اصحاب فكرة المجتمع المدني إلى بعضها، مثل سيادة القانون، واحترام ارادة الانسان وحقوقه في حقول الفكر والسياسة والانتاج، وتحديد دور السلطة، واعطاء الامة (المجتمع) الدور الكبير في بناء الحياة وصنع القرار السياسي، وارساء الحياة على اساس التعاون، والسماحة والانصاف، وقبول النقد والرأي الآخر... إلخ. وهذا المعنى اقرب إلى المعنى اللغوي منه الى المعنى الاصطلاحي.
ثم ان المجتمع المدني يعبر عن منهج معين، وآليات محددة، لبناء المجتمع المنشود، وهو يمثل مرحلة متطورة من الحياة الاجتماعية والسياسية. وليس مساحة معينة في المجتمع ليحدد موقعها، بأنها بين المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي، كما نراه من بعض الكتّاب.
ويثبت القرآن الكريم الأسس والمبادئ التي يبنى عليها المجتمع الانساني، والتي لم يأت دعاة المجتمع المدني وحقوق الانسان إلا ببعض منها بعد قرون من الزمان، وهنا نورد بعضا من تلك الآيات التي سجلت أسمى المبادئ الانسانية المنظمة للمجتمع، قال تعالى: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبِعْها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإنّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعض والله وليُّ المتقين» الجاثية/ 18-19، وقال سبحانه: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن ابدله من تلقاء نفسي إن اتّبعُ إلا ما يوحى إليّ انّي أخاف إنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمَ عَظَيم» يونس/15، فهذه الآيات وغيرها تؤكد مرجعية القانون، وان سياده القانون هي الاساس في المجتمع القرآني، فهي تخاطب الرسول (ص)، بأنه جعل على شريعة وعليه ان يتبعها، ولا يتبع اهواء الذين لا يعلمون، وليس له ان يغير فيها من تلقاء نفسه، فحتى الرسول (ص) يلزم باتباع القانون القرآني، وهو في معرض العقاب الإلهي لو خالف.
وقال سبحانه: «إنّ اللهَ يأمُرُكمْ أن تُؤدُّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حَكَمْتُم بَيْن النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل» النساء/85، وهو نداء صريح بلزوم قيام الحكم على أساس العدل.
ونستلهم الدعوة إلى بناء المجتمع التعاوني الذي ينشط فيه دور المؤسسات والمنظمات، من قوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى...» المائدة/2.
كما نجد مبدأ قبول الرأي والآخر والدخول معه في حوار علمي، والدعوة الى المشترك بين الطرفين، في قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كَلمَة سَواء بيننا وبينكم ألاّ نَعْبُد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله...» آل عمران/64، «ادعُ الى سبيل رّبكَ بالحكمة والموعظةِ الحسنةِ وجادِلهم بالتي هي أحسن...» النحل/ 125.
وكأس لبناء المجتمع المتكافئ، يثبت القرآن مبدأ وحدة النوع الانساني، والدعوة إلى التعارف والتآلف الاجتماعي، وتكريم الانسان، والاعتراف له بحق الاحترام، اذا ما هو حرص على ذلك بالطبع، وجعل قيم الحق والعدالة (التقوى) هي مقياس التمايز: «يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ اكرمكم عند الله أتقاكم» الحجرات/13، «ولقد كَرّمنا بني آدم وحَمَلناهم في البرّ والبحر وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا» الاسراء/70.
ولكي يتكامل بناء المجتمع المتكافئ يكرس القرآن الدعوة إلى احترام المرأة، ومنحها الحب والرحمة، قال سبحانه: «وجعل بينكم مودة ورحمة...» الروم/21، «ولُهنّ مِثلُ الذي عليهنّ بالمعروف»، البقرة/228.
ونستفيد من قوله تعالى: «والذين في أموالهم حقٌ معلومٍ للسّائل والمحروم» المعارج/24و25، «... كي لا يكون دُولَة بين الأغنياء منكم...» الحشر/7، جانبا من اسس الحياة الكريمة القائمة على اساس العدالة الاجتماعية، وتقليص التفاوت الطبقي.
هذه متابعة سريعة لبعض نصوص القرآن الكريم التي تؤسس لبناء المجتمع الكريم، وهكذا نعرف أن الحديث عن المجتمع المدني بهذا المعنى الاخير ليس مشروعا عصريا، وإن بذلت جهود تنظيرية لتحديثه وتطويره.
كما نعرف ان الاسلام يملك من ادوات البناء الاجتماعي ما هو كفيل ببناء مجتمع مدني سليم من امراض المجتمع المدني الذي دعا إليه الكتّاب الاوروبيون ويردد صداهم ـ باسم الحداثة والحرية وحقوق الانسان ـ كتّاب يعيشون حال ارتباك الرؤية، والانبهار بكل ما هو غربي.
فبناء المجتمع المدني هدف إنساني، تسعى لتحقيقه فلسفات ونظريات متعددة، تنادي ببناء المجتمع المدني. فلا ينبغي الاستغراق كثيرا في المصطلح، وانما لا بد من الوقوف على محتواه، وتمحيص عناصره الاساسية، وعلى ضوئها يحدد الموقف منه
العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ