المتتبع لما يجري في البلاد من عرس جميل ساهم فيه كل مواطن شارك أو قاطع الانتخابات النيابية الأولى بعد انقطاع أكثر من ربع قرن من الزمان حرمنا فيها من التدرج والاستفادة من العملية الديمقراطية التي كلما مارسناها نكون أكثر وعيا ونضجا. أقول إن المتتبع يلمس بوضوح الحملة الدعائية الضخمة التي استخدمت فيها شتى الوسائل لاقناع وحث المواطن على المشاركة وعدم المقاطعة ومعارضة المقاطعين عبر منشورات قالت إحدى الصحف المحلية إنها أعدت من قبل مواطنين مخلصين حريصين على مصلحة البلاد والعباد، كل ذلك جاء ليؤكد أهمية هذه الانتخابات كونها الأولى في عهد الاصلاح إذ أنها الترموميتر الذي به يقاس نجاح أو فشل الانتخابات، وفاقت نسبة المشاركة فيها الخمسين بقليل بعد ولادة عسيرة خطط لها دعاة المشاركة بما يملكونه من أجهزة إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة. ثم بدأ الفصل الثاني وهو اليوم التالي للانتخابات لاقناع المواطن بالنسبة المعلنة، ووقع بعض كتاب الأعمدة الصحافية في خطأ بعقد مقارنات سفسطائية بين نسبة الخمسين ونسب غيرها من الديمقراطيات الأخرى العريقة، وهي ديمقراطيات يرفضونها تماما عندما نقارن أنفسنا بهم بحجة الخصوصية العربية والمحلية! لكن سرعان ما يتناسون هذه الخصوصية، فبدلا من مقارنة نسبة الخمسين بنسبة أول انتخابات نيابية عند تلك الديمقراطيات العريقة، قارنوها بنسبة المشاركة في آخر انتخابات نيابية لهم بعد أن مل الناس هناك وبعد أن ضمنوا حقوقهم الدستورية وترسخت القيم الديمقراطية وتفرغوا لحقوق الحيوان، بعد أن ناضلوا لسنوات طويلة لنيل حقوق الانسان الرئيسية والمتمثلة في حرية الرأي من دون خوف أو سلطان أو قطع أرقاب وأرزاق. ووقع هؤلاء الكتاب في خطأ آخر لا يقل أهمية عن الأول، فبعد أن وصفوا نسبة 98,4 وهي نسبة الميثاق بأنها نسبة مواطنين مخلصين مبالين بما يدور حولهم، فإذا بنصفهم يتحول إلى غير مبال بمصلحة البلاد والعباد، فقط لمجرد تبرير غياب النصف الآخر من النسبة المشاركة في الانتخابات النيابية. وبعد أن أشادوا برجاحة عقل أصحاب نسبة الميثاق فإنهم تحولوا فجأة إلى بلهاء لم يقرأوا الميثاق، وإذا قرأوه فإنهم بالتأكيد لم يفهموه.
هذه لغة كتابة لا تفيد بتاتا، ولا تليق أبدا بهذا المشروع الاصلاحي الكبير الذي يسعى ويساهم فيه الجميع بلا استثناء، فهذه اللغة تضر بالمشروع الاصلاحي ولا تنفع، وإذا اعتقد أصحابها بأنهم بهذه اللغة الضارة سينفعون فهم مخطئون.
فكم نحن بحاجة الآن قبل أي وقت مضى إلى التعقل ووزن الأمور على حقيقتها، فقد علمتنا الأيام ان الاستخفاف بعقل المواطن ودس الرؤوس في الرمال لا يحل المشكلات المهمة، بل لابد من التعامل معها بصدق وواقعية بلا تضخيم ولا تصغير، حتى نستطيع أن نعمل سويا متكاتفين ومتعاونين من أجل الوصول إلى أجمل الايام التي لم نعشها بعد. فلكي نكون عونا لهذا الملك الحريص على مستقبل البلاد والعباد، لابد أن نكون صادقين مع أنفسنا ومعه، لا عونا عليه محرفين للحقائق. والآن وقد بدأ فجر جديد فلابد من الجميع أن يتحلى بالصدق والأمانة كي نؤسس جميعا فجر الحقيقة
العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ