قال المفكر انطوين دي سانت أوكسيبرية: «نحن لا يمكن ان نعد الأرض للمستقبل، لأن المستقبل شيء يمكننا بناءه». إقامة حوار إسلامي - مسيحي في مختلف بقاع الأرض كان آخرها في البحرين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أسقط نظرية صموئيل هانتينغتون عن صراع الحضارات، ويقصد بذلك تصادم الثقافتين المسيحية والإسلامية. والعالم يقف عند هذا الحد من الحوارات القائمة بين الثقافتين بل امتد ذلك الحوار ليشمل الأمم المتحدة، لشعور العالم بأهمية بناء المستقبل السلمي للجنس البشري، وعلى ذلك الأساس اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 53/ 22 للعام 1998، باعتبار العام 2001 السنة الدولية للحوار بين الحضارات.
الكاتب مارشال ماكلاهن في 1994، وصف العالم «بالقرية الكونية»، وتنبأ بأن العولمة ستوجد جوهر التعاون الدولي، كما ان قوة الاقتصاد الغربي ستلعب دوراً رئيسياً لتحقيق الأهداف والمقاصد الرئيسية للعولمة، والتي تهدف من بين أمور أخرى إلى تقوية وتعزيز الاقتصاد العالمي. وهذا يتطلب حواراً بين الحضارات لإيجاد التعاون بين الأمم. إلا ان الكاتب الأميركي هانتينغتون توقع أن العالم يتحرك نحو تصادم حضاري حتمي. وأن البلدان الإسلامية التي لها حدود إقليمية مجاورة للغرب، مرشحة للتصادم مع الغرب، وادعى بأن، التأريخ الإسلامي يحرض المسلمين على التصادم مع الغرب لإنهاء السيطرة الغربية على العالم.
وفي رأينا، ان الكتاب الغربيين الذين يحرضون الأمم والناس على الاصطدام بالمسلمين والدول الإسلامية لا يمثلون إلا مصالحهم الضيقة. إذ من صالح الجميع العمل لوضع إطار واضح للحوار الإسلامي - المسيحي. ويجب علينا تشجيع إقامة حوار بناء يناقش الأمور الدينية، والثقافية، ويساهم في تضييق الهوة بين الشمال والجنوب، وكراهية الغرب للإسلام.
هذا النوع من الحوار كان موجوداً سابقاً فيما بين هذه الأمم، نظراً إلى تأثير التاريخ الذي ربط هذه البلدان المتجاورة بعضها بعضاً. تلك الحضارات تبادلت المعرفة، الخبرات، السلع، وأسلوب الحياة. ذلك النوع من الاتصال ساعد هذه الأمم على مزج وتطوير تراثهم وثقافتهم.
البلدان الإسلامية والأوروبية المتجاورة جمعها بحر جغرافي واحد، على رغم انها من عالمين مختلفين يمثلان العالمين الأول والثالث. القرون الوسطى في أوروبا اعتبرها المؤرخون العصور المظلمة، في الوقت الذي وصلت فيه حضارة المسلمين إلى قمة تقدمها ورقيها في كل الحقول. بينما عصر النهضة الأوروبي، كان بداية لتخلف الحضارة الإسلامية، واتساع حدة الفجوة الحضارية بين العالم الأول والعالم الثالث، التي وصلت إلى المستوى المتدني الحالي، على رغم تبني الأمم الإسلامية اسلوب التعايش مع الغرب. ومازالت البلدان الإسلامية متخلفة تقنيا، الأمر الذي جعل أسواقها تعتمد اقتصادياً على إنتاج البلدان الصناعية وعلى خبراتها التقنية، التي لا بديل لها لتطوره مما جعلها تابعة إليها.
وعلى رغم ان الغرب متقدم بشكل تقني، مازال المسلمون والأمم الإسلامية يشعرون بالممارسات العنصرية ضدهم في الغرب خصوصاً في الولايات المتحدة بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول الدامية. المجتمعات الغربية مارست الفصل العرقي، الكراهية، والتفرقة ضد المسلمين المقيمين في البلدان الغربية. كما ان بلدان الاتحاد الأوروبي شهدت أنواعاً من الممارسات العرقية، العنف، والارهاب في مدنهم ضد المسلمين، الذين يشعرون بأن حقوقهم الإنسانية وحريتهم العامة منتهكة، خصوصاً في بلدان أوروبية مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. في المقابل خلقت الممارسات العنصرية الغربية ضد المسلمين درجات عالية من الكراهية في العالم الإسلامي، الأمر الذي سجل حوادث عنف مقصودة ضد الأوروبيين والأميركان تعبيراً عن الكراهية، عادة يكون مصدرها المتطرفون الإسلاميون المنتشرون في العالم الإسلامي. تلك البلدان تطبق معايير سياسة تكيل بمكيالين في تعاملها مع مشكلات العالم الثالث، على سبيل المثال:
الممارسات العنصرية في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا للآسيويين والأفريقيين والجماعات الإسلامية.
- حرب البوسنة والهرسك وكراهية الصرب للمسلمين، الذين تعرضوا للإبادة وديارهم للدمار.
- خوف الأوروبيين الشماليين من هجرة الجنوب المسلم الفقير، وتهديد ما يسميه الأوروبيون خطأ بالتعصب أو الارهاب الإسلامي.
- مبالغة الأميركان في تضخيم خطر المد الإسلامي وما يسمونه بإرهاب الجماعات الإسلامية المتعصبة على الغرب.
على رغم الخوف الأوروبي والأميركي، فإن الجانبين المسيحي والإسلامي شجعا بعض المحاولات، لتأسيس علاقات ثقافية فيما بينهما، عن طريق عقد مؤتمرات وندوات ناجحة كالحوار الخليجي الأوروبي، الأوروبي العربي، الحوار بين الشمال والجنوب، والحوار المسيحي الإسلامي. هذه الأمثلة كانت ثمرة جهود عقد الملتقيات الناجحة التي شهدها العالمان الإسلامي والغرب.
في هذا السياق، يجب التفريق بين تبادل العلاقات الثقافية وإيمان الناس بقيمهم. وإيمان الفرد والجماعة بحق المحافظة على معتقداتهم الوطنية أو الدينية. الأمم التي تؤسس علاقات اقتصادية وثقافية واجتماعية فيما بينها يجب ان تلتزم بعدم ارتكاب عدوان أو ظلم أو تحتل أراضي دولة ذات سيادة.
كيف يمكن ان نؤسس علاقات ثقافية بين أوروبا ودول إسلامية
الحوار المتحضر الهدف منه وضع خطوط توجيهية للطرفين لتحقيق المقاصد الآتية:
٭ احترام الغرب للمعتقدات الإسلامية، بالدخول في حوار حقيقي مع المسلمين، على ان تتفهم تاريخهم، عقائدهم، تراثهم، تقاليدهم، والأمر ينطبق على المسلمين أيضاً.
٭ المساواة والعدل والنزاهة، بإيجاد معادلة توازن مصالح الأوروبيين والمسلمين، وتتبادل الاعتراف بمعتقدات، تراث، دين، ولغة كل طرف. ليتمكن كل طرف من تأسيس علاقات متساوية مبنية على الثقة.
٭ مراجعة المنهج الدراسي التربوي، وكتب التاريخ في مدارس الجانبين من أي بيانات ومعلومات مهنية، خصوصاً تلك المرتبطة بالتعصب الديني والعنصري والنظرة الاستعمارية.
٭ تنقية وسائل الإعلام الجماهيرية، الأفلام، البرامج المذاعة، والمقالات الصحافية، التي تشوه حقائق الأمم وحياتها الاجتماعية والثقافية.
٭ وسائل الإعلام الجماهيرية الغربية يجب ان تشجع كتابها على نشر المقالات المنصفة للإسلام والمسلمين. والتفريق بين الإسلام والارهاب.
٭ كلا الجانبين يجب ان يدعما رسالة التفاهم والتعاون لبناء علاقات ثقافية حقيقية.
٭ تشجيعها تبادل الوفود الاقتصادية والتجارية، وإقامة أسابيع ومعارض ثقافية، اجتماعية، وحوار ديني. أوروبا يجب ان تتجنب التصادم الحضاري مع المسلمين، حتى لا تتكرر قصة استعمال النفط العربي سلاحاً لمقاطعة الغرب. الأمم الغربية مازالت تتذكر تأثير مقاطعة النفط على اقتصادياتها.
٭ في الوقت الحاضر كلا الجانبين بحاجة إلى تنظيم حوار بناء حتى يتمكنا من إنجاز هدف التفاهم والتقارب الإسلامي الغربي.
الحوار الإسلامي المسيحي
العالم يشهد الآن فترة التحول الحضاري المشحون بالمتغيرات المؤثرة على التفاعل الثقافي. الجانبان شهدا عبر قرن من الزمن مصادمات ثقافية واقتصادية وفكرية. وهناك حاجة إلى القول ان التصادم العسكري والاستراتيجي بين الإسلام والمسيحية، خلف الكثير من الضحايا خصوصا من الجانب الإسلامي. ومن هنا، تكمن أهمية الحوار، لتمهيد الطريق للجانبين للاتصال والتعاون بينهما لمصلحتهما المشتركة، بشرط الاخذ في الاعتبار النتاج الغني لحضاراتهما الذي خلفته للإنسانية. والإستفادة من العطاء الفكري والموروث الثقافي للحضارات الإنسانية المختلفة.
أهمية الحوار المتحضر
أي حوار متحضر يجب ان يأخذ في اعتباره «مشروعية الحال الدينية» والحقائق الدولية القائمة. وبناء على ذلك دعا الإسلام إلى إقامة حوار متحضر، والاتصال والتعايش والتفاهم مع الحضارات وثقافات الجنس البشري كافة. وبناء حوار مرتبط بالواجب الإسلامي المنصوص عليه في الشريعة الإسلامية. رسالة الإسلام للعالم، هي ان الدين الإسلامي دين تسامح لا يفرق بين اللون أو الجنس أو الأصل أو البلد، هدفه الأساسي صالح وتقدم الجنس البشري.
واجب المسلمين توضيح رسالة الإسلام، ومبادئه، قيمه، ومثله حتى يتمكن العالم من بناء سيناريو واقعي وحقيقي عن الإسلام، ولتصحيح صورة الإسلام التي ظهرت مشوهة في وسائل الإعلام الجماهيرية الغربية. لهذا فإن الحوار المتحضر يجب ان يكرس لتوضيح العناصر الآتية:
٭ المسلم يجب ان يسعى كي يعرض الإسلام وقيمه ومبادئه بوصفه ديناً مقدساً يحترم تراث ودين الحضارات الإنسانية الأخرى.
٭ الاعتراف بتعدد الحضارات وأهمية تراثها وثقافاتها بالنسبة إلى التقدم الإنساني.
٭ إدارة موازنات ونفقات الحروب لصالح رفاهية البشر.
٭ التعاون بين الأمم العالمية، باستعمال المعلومات المتوافرة والاتصالات.
٭ الاستفادة بشكل مشترك من مساهمات الحضارة المختلفة.
الأطراف المهتمة بالحوار المتحضر
لجعل الحوار ناجح وبنّاء: على الجانبين المشاركة في الحوار على مستوى متساو، وبوضع المعايير الانمائية والثقافية المناسبة، والتعرف على مجالات المناقشة، والأخذ في الاعتبار القضايا الإنمائية واحتياجات البلدان النامية.
مشاركة منظمات دولية متعددة الأطراف مثل: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة اليونسكو ومنظمة التجارة الدولية إلخ...، ومنظمات دولية وإقليمية أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، مجلس التعاون الخليجي، جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي إلخ... إضافة إلى الجامعات، ومراكز الدراسات والبحوث، والأحزاب السياسية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية والإقليمية، وعلماء الدين والفقه، والمفكرين والمثقفين، والعلماء المتخصصين في حقل التراث، والاقتصاد، والفنون إلخ... كل هؤلاء عليهم مسئولية إنجاح الحوار الإسلامي الأوروبي.
الانفتاح على الحضارات الأخرى
لتحقيق هدف الانفتاح على الحضارات الأخرى. كلا الجانبين يجب ان يعترفا بحقوق المواطنين المستقرين في بلدانهما.
٭ الغرب يجب ان يعترف بحقوق المسلمين من مواطنيه ومن المستقرين على أراضيه. في الوقت نفسه على الحكومات الغربية تسهيل فتح مدارس إسلامية لتعليم المسلمين لغاتهم ودينهم، والسماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية، والتمسك بتقاليدهم وتراثهم.
٭ السماح للجالية الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية لحل مشكلاتها الاجتماعية والدينية وفقاً للقوانين الإسلامية.
٭ الاعتراف بالمسلمين بوصفهم جالية تساهم في تطور وبناء البلد المستقرة فيه، وأحقيتها بتسلم المعونة الحكومية.
٭ منحهم مقبرة إسلامية لدفن موتاهم.
من الناحية الأخرى، المواطنون المسلمون المستقرون في بلد غربي يجب عليهم التقيد بالتعهدات الآتية:
احترام قوانين وأنظمة البلد الغربي. واحترم دين وتقاليد وتراث البلد الغربي. وإيجاد جو مسالم عن طريق الاندماج في المجتمع الغربي.
العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ