ثمة مفارقة عجيبة تحدث في عالم تختل فيه الموازين وتنعكس فيه الأمور. ومن المفارقات أن مجرد تقرير إخباري يطيح برئيس محطة عالمية لها صيتها وشهرتها كمحطة الـ «بي بي سي» وكذلك رئيس مجلس أمنائها، وكان من الممكن أن يطيح تقرير اللورد هاتن برؤوس كبيرة في الحكومة البريطانية لو أن التقرير أثبت صحة الشكوك التي وردت في التحقيق الصحافي عن انتحار خبير الأسلحة البيولوجية البريطاني ديفيد كيلي.
كما يواجه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والرئيس الأميركي جورج بوش طلبات متزايدة بإجراء تحقيقات مستقلة مزلزلة بشأن فشل الاستخبارات بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة لدى العراق.
ذلك قليل من كثير في عالم تجرد من المبادئ والقيم، إلا أنه احتفظ للناس بعزتهم وكرامتهم وضمن لهم أن يعيشوا أحرارا يتساوى الإنسان العادي مع الرئيس أمام القانون ويمثلان أمام القضاء، إذ لا يمكن أن تطلق أيدي المسئولين للعبث بأموال الناس وممتلكاتهم أو الاعتداء على حرياتهم، بل يخضعون للمراقبة والمحاسبة وتطبق عليهم قاعدة «أنّى لك هذا» كما تطبق على غيرهم من المواطنين العاديين.
فإذا كان هذا حال الدول الغربية التي لا تدين بالدين الإسلامي حيث الدعوة إلى تطبيق العدل بين الناس من دون النظر إلى الجنس أو اللون أو الطبقة والمنصب، فالناس سواسية كأسنان المشط وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. فهل تسود في عالمنا الإسلامي هذه المُثل والقيم التي نحن أولى بتطبيقها من غيرنا؟ إننا لو قمنا بنظرة فاحصة لوجدنا أن الآية قد انعكست والمفاهيم تبدلت ولرأينا الفضائح تتوالى الواحدة تلو الأخرى في بلادنا العربية إلا أن أصحابها يصمدون لا تهزهم العواصف ولا تزلزلهم الحوادث مع التسليم بوجود استثناءات نادرة الحدوث. مثلا حدث أخيرا عندما تقدم عدد من النواب الكويتيين بطلب لحجب الثقة عن وزير المالية محمود عبدالخالق النوري بسبب مزاعم بسوء الإدارة وإهدار المال العام بعد استجواب ساخن من جانب النائب المعارض مسلم البراك الذي قرأ قائمة طويلة من الاتهامات ضد النوري وهو ما يُحسب لصالح التجربة الكويتية التي تتميز على غيرها من التجارب في الدول العربية وهذا المثال نستطيع أن نعتبره الجانب الإيجابي في الممارسة الديمقراطية. أما الجانب السلبي وهو الشائع في الوطن العربي فأبرز مثال عليه تقرير لجنة التحقيق البرلماني التي تشكلت بعد أن صرح مدير عام الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية الشيخ عيسى بن إبراهيم آل خليفة في أبريل/ نيسان 2003 بشأن الإفلاس الاكتواري للهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية والهيئة العامة لصندوق التقاعد، فلقد تكشفت الحقائق إلى درجة أن الناس كانت تعتقد بأن الوزراء المعنيين سيقدمون استقالتهم من تلقاء أنفسهم من دون الحاجة إلى مساءلة أو حجب الثقة، لأن المسألة تختص بأموال الناس.
إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث وبقيت الكرة في ملعب مجلس النواب بغرفته المنتخبة ليصبح أمام تحدٍّ صعب لإثبات قدرته على إثبات الوجود. وكان البعض يراهن على إسقاط ذرائع المعارضة في محدودية صلاحيات المجلس المنتخب، معتقدين أن نجاح المجلس في أول تجربة له سيسحب البساط من تحت أرجل المعارضة فيما لو استطاع حجب الثقة عن الوزراء بعد استجوابهم... إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفنهم حين وقف رئيس المجلس قائلا إنه سيضحي بسمعته من أجل الحفاظ على بقاء التجربة، أي أن بقاء التجربة مكبلة ومن دون فاعلية خير لها من مواجهة أي امتحان مع السلطة التنفيذية التي قد تقدم على حلها في أية لحظة فيما لو تطاولت إلى مساءلة أيٍّ من الوزراء.
ويبدو أن النواب أدركوا صعوبة الدخول في مواجهة مع السلطة التنفيذية وخصوصا مع الاصطدام بعقبة كبيرة وهي المادة 45 من قانون مجلسي الشورى والنواب التي تحظر على البرلمان مساءلة الحكومة عن أي أمور سبقت انعقاد المجلس، التي سيتمترس خلفها الوزراء لتكون صمام أمان لهم ضد أي توجه لاستجوابهم عن أمور سابقة لانعقاد المجلسين. لذلك خرجت لجنة التحقيق البرلمانية بتوصيات إلى السلطة التنفيذية وآثر النواب التريث بانتظار مدى الاستجابة للتوصيات، إلا أن الاستجابة لم تكن بمستوى طموح النواب إذ تم تجاهل مسألة محاسبة الوزراء أو إقالة أي مسئول تسبب في إفلاس الهيئتين، بينما تم تعزيز استقلالية هيئتي التقاعد والتأمينات الاجتماعية بما يكفل لهما الاستقلالية المالية والإدارية، وألا تتبع الهيئتان وزير العمل والشئون الاجتماعية ووزير المالية بل تقعان ضمن إشرافهما فقط لضمان تحقيق توجيه الدولة ورقابتها.
وهو تقرير من دون مستوى الطموح الشعبي وخصوصا أن تشكيل مجلس الإدارة الجديد الذي ينص على خمسة أعضاء يمثلون الحكومة وخمسة أعضاء من المؤمن عليهم وخمسة أعضاء يمثلون أصحاب العمل، لا يشير بصراحة إلى الخمسة المؤمن عليهم هل هم منتخبون، وهل سيكون للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين دور في اختيارهم أم سيتم تعيينهم من قبل السلطة التنفيذية وبالتالي سيكونون صدى لرأيها وقراراتها. كما أن إدارة صندوق التقاعد مازالت يكتنفها الغموض، وليس هناك ما يشير إلى محاسبة المسئولين عن إفلاس الهيئتين، كما أن تعيين المدير العام لكل منهما بمرسوم لمدة أربع سنوات يجعلهما خاضعين لإرادة السلطة التنفيذية.
فهل نعتبر أن العاصفة هدأت بعد أن تكشفت الكثير من الحقائق حين لوّح مقرر لجنة التحقيق النائب عبدالنبي سلمان بورقة غير رسمية مرفقة بأوراق رسمية تتضمن أمرا بصرف مبلغ 43 ألف دينار؟ وهل كانت الاستجابة بحجم الخسائر التي طالت أرزاق الناس بعد جهدهم وتعبهم المتواصل؟ وهل كانت الحلول المطروحة بحجم الخسائر؟ أليس من حق المؤمن لهم أن يسألوا عن القروض المقدمة إلى المؤسسات والمصارف، وكذلك قرض مركز المعارض الذي تم شطبه بالكامل بقرار من مجلس الإدارة، والقرض المقدم من شركة فنادق إذ شطبت الفوائد المتراكمة كتسوية لسداد هذا الدين وخسر الصندوق الفوائد التي تقدر بنحو 2 مليون دينار؟
ويعيد المجلس الآن الكرة مرة أخرى إلى الاستجواب بعد أن تسلم الوزراء الثلاثة طلبات الاستجواب وتم تحويلها إلى لجنة الخدمات، في حين اتهمت الحكومة النواب بعدم الوفاء، فهل تسير الأمور بحسب ما رسم لها النواب أم أن أمورا تحدث لم تكن في الحسبان؟ وهل ينجح المجلس هذه المرة في حجب الثقة عن أحد الوزراء كما حدث لوزير المالية الكويتي الذي قدم استقالته بعد تهديد مجلس الأمة الكويتي بالتصويت على حجب الثقة؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
أما بالنسبة إلى هيئتي صندوق التقاعد والتأمينات فإن المرسوم بقانون رقم 13 لسنة 1975م بشأن إنشاء الهيئة العامة لصندوق التقاعد أعطى الشخصية الاعتبارية للهيئة إذ تنص المادة 48 من القانون المذكور على أن تكون للهيئة كمؤسسة عامة الشخصية الاعتبارية ولها موازنة مستقلة تلحق بالموازنة العامة للدولة وتخضع لإشراف وزير المالية.
ولن تتحقق الشخصية الاعتبارية للهيئة ما لم يكن للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين دور في اختيار ممثلي العمال لضمان استقلالية آرائهم بعيدا عن تأثير السلطة التنفيذية وكذلك وجوب انتخاب مديرها العام بدلا من تعيينه.
ويحق للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين أن يطالب بحقه في التمثيل الذي أقره قانون النقابات العمالية رقم 33 في المادة (8) التي تنص على أن الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين هو المسئول عن العمل النقابي لعمال البحرين ومن اختصاصاته التي نصت عليها المادة المذكورة «المشاركة في المجالس واللجان المعنية بشئون العمل والعمال»، ولا تخرج الهيئتان من هذه الشئون، لذلك يلزم أن يمارس الاتحاد حقه في ذلك، وإذا اكتفت السلطة التنفيذية بالحلول الترقيعية فإن الهيئتين سينطبق عليهما المثل القائل: «كأنك يا بوزيد ما غزيت»، أو البيت الشعري الذي يقول:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
إقرأ أيضا لـ "هاشم سلمان الموسوي"العدد 557 - الإثنين 15 مارس 2004م الموافق 23 محرم 1425هـ