في كتابه المميز «تذكرة الأولياء» وهو يذكر فيه أحوال عصره كتب فريد الدين العطار (قتله المغول في سنة 618، وفي قول آخر 628هـ) في ذكر الحسن البصري:
«قالوا: أيها الشيخ، قلوبنا نائمة، لا يؤثر فيها من كلامك شيء.
ما نفعل؟ قال: ليتها كانت نائمة، لأن النائم اذا هززته استيقظ، قلوبكم ميتة، لا تستيقظ بالاهتزاز!
سألوه: ما هو الاسلام، ومن هو المسلم؟ قال: الاسلام في الكتب، والمسلمون باتوا تحت التراب».
في عالم يسيل فيه الدم والنفط وتزدحم في ارجائه المخلفات النووية ويخطف فيه حق ابنائنا في التأمل واستخلاص العبر مما يجري حولهم من كوارث بشرية يخسر فيه العالم ما يوازي ضحايا هيروشيما كل ثلاثة أيام بسبب مذابح المجاعة التي تسببها سياسات التنمية على النمط الغربي التي تقررها صناديق النقد الدولية والبنك الدولي وفي عالم «اختفى منه تماما مفهوم الشرف» كما يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير روجيه غارودي، اذ اصبحت فيه «إسرائيل» شيكاغو الصغيرة، وهي تغزو فلسطين بدبابات زنة اربعين طنا مقابل بنادق خفيفة وقاذفي حجارة لا يملكون متراسا يحميهم الا لحم اجسادهم المكشوفة. وفي عالم الومضات التلفزيونية التي ترفض الغوص في الحقائق الكارثية التي تسببها مشروعات وحدة العالم الامبريالية التي باتت تسمى «العولمة» والتي تكلف ثلاثين مليون ضحية في العام بينهم ثلاثة عشر مليون طفل بسبب المجاعة والحروب التي يؤججها الكبار (وفقا لارقام منظمة اليونيسف).
في عالم تبرر فيه كل الجرائم وكل اشكال ارهاب الدولة المنظم تحت مسميات القصف «الانساني» أو التدخلات «الديمقراطية» أو ضرورات «الاصلاح» والقضاء على الأنظمة الدكتاتورية.
في عالم يعتبر فيه قمع الحكومات للمعارضات الشعبية نوعا من الحرب ضد الارهاب!
في عالم يتيح وصف الحكومات التي ترفض الانصياع لوحدة الهيمنة العالمية بـ «الضلوع في الارهاب».
في عالم تتراجع فيه أعرق الديمقراطيات الغربية وتضحي فيه عن ثمانمئة عام من تراث المقاومة ضد الاستبداد خلال بضع ساعات من أجل اللحاق بـ «الحرب العالمية ضد الارهاب» حتى لو اضطر «فقهاء» القانون الاوروبي بالدوس على كل مقررات وقوانين بلدانهم المحلية.
في عالم تختفي فيه الديانات التوحيدية الثلاث من معادلات التعامل البشري لصالح دين جديد اسمه «وحدانية السوق».
في عالم يجرؤ فيه طوني بلير أول التابعين والمروجين لهذا الدين الجديد! على وصف كل مقاومة أو لرفض لهذا الدين الجديد بأنه «جرثومة» فيقول وهو خارج من رحلة استجمام قصيرة لمصر في الاسبوع الاول من العام 2004م: «ان جرثومة التطرف الاسلامي تهدد السلام العالمي!».
في عالم ينقطع فيه «شرش الحياء» عند الكثيرين ممن يستطيعون فعل أي شيء يوقف زحف الجلادين بسيوفهم وخناجرهم على المستضعفين والفقراء، ولا يفعلون شيئا حفاظا على مصالحهم المباشرة وفي طليعتها البقاء على رأس السلطة وبأي ثمن كان!
في عالم باتت فيه الحرب بين «من يملكون كل شيء» و«من لا يملكون أي شيء» هي معادلة الاستقطاب الاساسية بين «الخير» و«الشر».
أجد من حقي ومن حق الكثير من المسلمين والعرب ان يتذكروا في هذه اللحظات العصيبة عهد المغول والتتار واقوال ابي الحسن البصري وفريد الدين العطار الآنفة الذكر.
ولن يضعف أو يوهن من استدلالي هذا وجود اعمال ارهابية هنا أو هناك باسم المسلمين! أو باسم العرب! أو باسم العراقيين!
فهؤلاء براء منهم المسلمون والعرب والعراقيون. وان كان منهم الكثير ممن جندته اجهزة القمع والهيمنة العالمية نفسها لهدف «اجهاض» الثورات الحقيقية ومشروعات الاصلاح والتحول والتغيير الحقيقية في بلداننا وهو ما سيثبته التاريخ ان عاجلا أو آجلا.
لكننا من جهة أخرى يجب ان نتوقف طويلا عند محطات التحول التي تمر بها شعوبنا في هذه اللحظات العصيبة ونحن نستمع فيها لذلك الكم الهائل من الترويج المتعمد لمقولات مشبوهة يراد الزج بها في لحظة ضعف الأمة ووهنها الراهنة مثل «ان حرية التعبير والتظاهر لا تتوافر الا في بلداننا التي تخضع للاحتلال» أي انها فلسطين والعراق في مقارمة مع انعدام مثل ذلك في البلدان العربية والاسلامية الاخرى التي تخضع لحكومات وطنية غالبا ما تمارس سياسة الفكر الواحد الا أما نذر. أو مقولة «عدم التفريق بين الخارج والداخل عندما يتعلق الامر بضرورات الاصلاح» بحجة ان العالم بات موحدا في كل شيء بعد توحد السوق وقيام منظمة التجارة العالمية!
أو مقولة: «لابد ان نكون واقعيين ونقبل بالدولة الاسرائيلية فيما بين ظهرانينا، خصوصا بعد فشل الرفض العدمي على مدى الخمسين عاما الماضية!».
أو مقولة: «لماذا لا نعلن تواصلنا وتعاملنا الواقعي! مع «إسرائيل» أليس ذلك أفضل من الابقاء عليه سراَ؟»
أو مقولة: «لقد انتهى عصر الايديولوجيات والاديان والقوميات وولى الى غير رجعة في ظل وحدة العالم المصلحية!».
لكن احدا لم يتوقف للحظة ليسأل: أليس كل هذه المقولات انما تروج ويعمل من أجل اشاعتها وتعميمها من أجل انجاح الدين الجديد الذي اسمه «وحدانية السوق؟!».
لماذا نخفي هذه الحقيقة على الناس ولا نصارحهم بها؟! نعم هناك فوائد كثيرة مما يجري من حولنا وأهمها ربما ازالة المستبدين والمتحكمين «الصغار» في رقابنا و«فتح» باب من ابواب الحرية الغالي والثمين امامنا. ولكن هل فكرنا بالثمن المقابل الذي ندفعه؟
ان أية مقارنة أو محاسبة علمية مدروسة ستقول لنا ان الثمن سيكون باهظا جدا. انه وفي الحد الأدنى من التقدير لن يكون اقل من رهن الاوطان في يد من هو أكثر استبدادا وأكثر فتكا بمقدرات الناس
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 555 - السبت 13 مارس 2004م الموافق 21 محرم 1425هـ