لا تزال المعارضة البحرينية تحتاج إلى الكثير من النصح، وقبل النصح: تحتاج إلى الكثير من التواضع، وسماع رأي الآخرين، وخصوصا أنها تتعاطى في ملفات حساسة، وتقود جماهير فيها الكثير من إرهاف الحس والتأثر السريع من القضايا والحوادث، وقبل فوات الأوان، وقبل دخول المعارضة في دهاليز السياسة وأنفاقها المظلمة، وقبل أن تقدم على خطوات كبرى، أو تخرج من نصر جزئي مزهوة بنصرها، فإن المعارضة والقيادات على رأسها بحاجة إلى التواضع لتكون قادرة على الإنجاز ومواصلة هذا الدرب الطويل الشاق.
هناك الكثير من المتغيرات على مستوى أداء الحكومة، ونظرتها إلى القضايا والأمور، ومعالجتها لقضايا الساحة، وبنظرة فاحصة لكل الجولات التي حصلت بين المعارضة والحكومة، فإن أداء الحكومة في عهد الإصلاح أكثر تطورا في الأساليب ومسايرة الواقع من أداء المعارضة، ربما للفارق في القدرات والإمكانات والعقول المفكرة المتمرسة في العمل السياسي، وليس صحيحا من باب التوصيف العلمي الدقيق، تشبيه مرحلة الإصلاح بقانون أمن الدولة في الأدوات والأساليب، وبقاء الكثير من قطاعات المعارضة متمسكة بهذا الوصف، سيسبب لها مشكلات كثيرة في معالجتها للقضايا السياسية، وستبقى أسيرة الحدث المغاير والأسلوب المغاير في تعاطي السلطة معها خارج نطاق العقلية القديمة، ما سيوقفها عن الفعل والتأثير في الساحة، كنتيجة مصاحبة لأسلوب تعاطي السلطة مع المعارضة ونظرة المعارضة القديمة إلى السلطة.
على مستوى المعارضة، هناك عدة إشكالات معقدة تؤخر من أدائها السياسي وقدرتها على الإنجاز، وقبل ذلك هناك مجموعة من المفاهيم الخاطئة، سواء على المستوى الإجرائي أو المستوى المنهجي والذهني تشكل عائقا غير مبرر لتخطي المعارضة مراحل متقدمة من العمل السياسي، كان بإمكانها تخطيها منذ زمن طويل، إلا أنها لم تعد قادرة على مراكمة خبراتها وتجاربها التي استقتها مباشرة من الواقع، لتقع في أخطاء أخرى قاتلة: منهجية وإجرائية، فتفقد الكثير من حيويتها وقدرتها على قيادة شارع يموج بالكثير من الملفات والأعباء التي تتراكم عليه من دون قدرة السلطة ولا المعارضة على حلها.
لتكن المعالجة أولا إلى البعد المفاهيمي وتأثيره في واقع المعارضة سواء على مستوى الإجراء أو المنهج، وفي هذا البعد ثلاثة إشكالات مهمة يجب على المعارضة الالتفات إذا ما أرادت أن تنجز شيئا في عملها السياسي، وأن تراكم خبرات وتحرق مراحل سياسية تسبق بها خطوات السلطة.
الإشكال الأول - سلمية المطالب واختيار الأدوات السلمية الأفضل لتحقيقها: قد يكون الأسلوب السلمي كحالة شفافة في التعاطي مع المعطى السياسي اليومي، أعقد وأصعب بكثير من أسلوب العنف والمواجهة مع السلطة، فهو قابل لأن يكون وسيلة لمخادعة الناس والركون إلى الراحة بدعوى السلمية، وقابل لأن يكون وسيلة لأخطاء منهجية وعدم الدقة في تقدير الأدوات السياسية الأفضل لمواجهة إشكالات الواقع، وقابل لأن يلغي كل وسائل الدفاع السلمية بحجة الحفاظ على النهج السلمي، وهو النهاية قابل لأن يعطي المبرر الموضوعي لوجود المعارضة كجزء حيوي ومؤثر في الحياة السياسية اليومية.
بين هذه الخيارات جميعها، تأتي مسألة تقدير السياسي للظرف الموضوعي والأدوات السياسية المناسبة، والتي تحتمل الخطأ والخطأ المتعمد والمقصود، وتحتمل الكيد والنكاية بالآخرين، كما تحتمل الدقة والموضوعية في توصيف الظرف الموضوعي ومعالجته، وتوصيف الأداة السياسية والأخذ بها بحزم، أو تركها وإهمالها لدواع نفسية لا علاقة لها البتة بالتقدير الموضوعي للقضايا والحوادث، وبين الخيارات والاحتمالات، يأتي عنصر الإرادة الواعية للسياسي ليكون بوصلة كل هذه المعطيات لتحقيق أفضل النتائج في الحياة السياسية، وتأمين قدر كبير من الأمن السياسي لكل الأطراف حتى مع وجود التعارض الذي لا يمكن التخلص منه أو إلغاؤه من الحياة السياسية.
إذا ما قيس واقع المعارضة البحرينية ومدى دقتها في الأخذ بالنهج السلمي وأدواته في العمل السياسي، فيمكن القول بعيدا عن النوايا السيئة التي تتخذ من الركون إلى الواقع أساسا لتبشيرها المغلوط بهذا النهج، إن المعارضة تفتقد أساسيات العمل السياسي وفق النهج السلمي في الكثير من محطاتها السياسية والمعقدة، وخير مثال على أخطاء المعارضة المنهجية والإجرائية، ما قامت به في الآونة الأخيرة من تحشيد للناس تجاه العريضة الشعبية والندوة الجماهيرية بشأن المسألة الدستورية، حتى أوصلتهم إلى درجة الذروة والغليان من خلال التصريحات النارية للرموز، كما قامت بتحديد تاريخ الندوة الجماهيرية وتدشين العريضة الشعبية، حتى علم كل الناس بهذا الخبر، ثم يتم الإعلان عن تأجيل هذه الندوة إلى ما بعد سباق «الفورمولا 1».
ما قامت به المعارضة خطأ منهجي وإجرائي قاتل، وليس مورد الاعتراض على تأجيل الندوة لما بعد الفورمولا 1، فهذه مسألة تخضع للتقديرات الموضوعية التي قد يختلف السياسيون عليها، ولكن الاعتراض على التحشيد غير الطبيعي للناس، وإعلامهم بموعد الندوة، من دون الإعداد الجيد لها ولا استكمال بقية الإجراءات بشأنها، ثم تأجيلها والناس متلهفون لها لما تلقوه من تحشيد وشحن لا يمكن معه إلا أن يصابوا بالإحباط جراء هذا التأجيل، فشحن عواطف الناس وتأجيجهم لا يمكن أن يكون من دون مقابل يحصلون عليه، والتوهم بالقدرة على التحشيد في أي وقت، فضلا عن أن التأجيل مع وجود شحن مسبق وعلم الناس بالموعد الأصل للندوة الجماهيرية سيثير الشكوك والبلبلة في الوسط المعارض، وسيجعل من المواقف السياسية عرضة للتخمينات والتقديرات الخاطئة، والظنون التي لا تنتهي، وهذا ما لا يجره أي معارض عاقل على نفسه.
وهنا لابد من الالتفات إلى نقطة في غاية الحساسية، فهي مثار لغط وغموض في الوقت نفسه، ومثار شكوك وريبة عند الكثير من الخطوط السياسية، ومن بينها الحكومة كطرف في المعادلة السياسية، فرفع شعار «سلمية المطالب» في ظل عدم قدرة الطرف المعارض على ضبط إيقاع الشارع العام وانفعالاته التي لا تنتهي، قد يجعل من الشعار موضع تندر الكثيرين، وخصوصا مع وجود جدلية المقاطعة والمشاركة، ومفرزاتها التي ترى في بقاء المعارضة خارج قبة البرلمان سببا لاحتقان الشارع، وخروج المعارضة من المعادلة السياسية المحلية والدولية، في تغافل مقصود إلى المسبب الرئيسي لحالات الاحتقان في الشارع، وربما تكون دلالة هذه الإشارات من هذه الإطراف، سببها الأخطاء المنهجية والإجرائية التي ترتكبها المعارضة في لحظة ما، فتقود إلى هذه النتيجة، وتضيع على المعارضة فرصة إثبات عكس هذه المقولات، وتثبيت معادلاتها ومطالبها السياسية على أرض الواقع.
يجب التأكيد هنا أن القدرة على تنظيم الخيارات السياسية، وتوازع المهمات والملفات ومراكز الثقل بين كوادر المعارضة، وعدم حصرها في الرموز أو في كوادر بعينها، وعدم السماح بوجود أجندة خاصة خارج الإجماع العام للحراك السياسي المعارض، وتثبيت النهج السلمي كثقافة منهجية وإجرائية وميدانية تشغل قطاعات كبيرة من الشارع عن الأساليب التقليدية والعنفية مع السلطة، من خلال الإبداع والتنوع في الأساليب السلمية، كما هي خطوة العريضة، التي ستلهي الكثير من الشباب تحديدا عن أي سلوك آخر، وستوجه كامل طاقتهم وحيويتهم لإنجاح هذا الخيار، ما سيضعف خيار العنف أو أي وسيلة أخرى بغية الوصول إلى المطالب، وفي ذلك صلاح للمعارضة والحكومة معا، وتجنيب البلد الكثير من المنزلقات الخطيرة التي تنجم عن عدم وجود أجندة واضحة وأدوات سياسية لتحقيقها، فكل هذه الخطوات ستجعل من المعارضة قادرة على تثبيت النهج السلمي وقيادة الشارع من خلاله، والقضاء على الفهم الخاطئ الذي يرى أن المعارضة عاجزة عن قيادة الشارع.
الثاني - طبيعة التعامل مع المرحلة السياسية الحالية: هناك الكثير من التنظيرات التي تحاكم الواقع السياسي الحالي بأساليب مختلفة ومن منطلقات مختلفة، وهذا ما تسبب في وجود مرجعيات مختلفة لقيادة الواقع، جميعها تعامل سواء على المستوى المعارض أو الرسمي بمستوى واحد، وهذه في حد ذاتها مشكلة كبيرة، لأنها تلغي طبيعة التمايز بين هذه المرجعيات، وحجم تأثيرها على الواقع السياسي، ما يسبب في تأخير الكثير من الملفات وتأجيلها لصالح هذه التوازنات التي لا تمثل منطلقات قوة على المستوى الجماهيري بقدر ما تمثل منطلقات قوة على مستوى النخب والرؤى السياسية، وخصوصية هذه الرؤى وارتباطها بمصالح هذه الفئة أو تلك بعيدا عن المصالح الفعلية للجماهير.
هذه ليست العلة الوحيدة، على رغم كونها خطيرة جدا على المستوى المنهجي والإجرائي، وقدرته على تسريع وتيرة العمل السياسي، والتقدم خطوات أكثر لبلورة الموقف السياسي العام، بغية الوصول إلى نتائج مرضية، يمكن أن تكون قاعدة لتوافق وطني حقيقي لا يخضع للأساليب الترقيعية في معالجة القضايا السياسية، ولا التوازنات التي تناغي مصالح أصحابها فقط، وتبتعد كل البعد عن المشهد الوطني العام، بالمسافة التي تتحقق فيها هذه التوازنات كجزء لا يتجزأ من تعقيد الواقع السياسي، الذي يجب أن تقبل به جميع الأطراف حفاظا على التوافق الشكلي الذي تقوم عليه القيادات والمواقع الرمزية.
هناك إشكال آخر أعمق من تعدد المرجعيات السياسية وقراءتها للوضع السياسي العام، وهذا الإشكال يتعلق بفهم عمق مرحلة الإصلاح الحالية، وقدرة الأطراف الفاعلين فيها على مراكمة العمل السياسي والخطوات وصولا إلى مرحلة توافق فعلية أكبر، وضمن هذا السياق، ترى الكثير من النخب أن المشهد السياسي البحريني لا يحتمل أكثر ما تم من إصلاحات، وأن ما تم هو أفضل توازن قائم بين قانون أمن الدولة وعهد الإصلاح، ويجب العمل من خلال هذا التوازن، ومراكمة الفعل السياسي النجاحات ولو بشكل بطيء، معتبرين أن أي سقف أعلى في ظل وجود حركة إعلام قوية تقوم بها الحكومة للترويج لمشروع الإصلاح على المستوى الخارجي، هو بمثابة العبث السياسي، لأن مستوى قراءة الجهات الخارجية للانفتاح السياسي في البحرين، لا يسمح للمعارضة بتحريك التفاصيل الجزئية التي هي أساس الاعتراض وعدم التوافق بين المعارضة والحكومة.
وتؤكد هذه الأطراف أيضا، أن ديناميكية المعارضة في فترة التسعينات، وقدرتها على إيصال صوتها إلى الخارج سببه القمع الأمني وانتهاك حقوق الإنسان البحريني في تلك الفترة، أما في ظل عدم وجود سجين سياسي واحد، ووجود مساحة من حرية التعبير، فإن الأفضل هو استثمار هذه المساحة لتحقيق مكاسب فعلية حتى لو كانت جزئية، والعمل على مراكمتها وزيادتها وتثبيتها لتكون أمرا واقعا، يمكن البناء عليه لخطوات أكبر.
هنا يجب تثبيت مجموعة حقائق ضرورية ومهمة لمناقشة هذا الخيار، ومدى ملاءمته للمعارضة:
الأولى: ان تحقيق مكاسب جزئية أمر مشروع، ويسهل من إنجاز المكاسب الكبرى عبر المراكمة للمكاسب الجزئية، وعلى المعارضة أن تنظم خياراتها ولا ترمي بكامل ثقلها في الملف الدستوري فحسب، وإنما هي مطالبة بتحريك كامل الملفات، عبر إيكال مهمات هذه الملفات إلى كوادر متخصصة، وليس بالضرورة أن يكون الرموز قائمين على هذه الملفات، فهذا يشتت من جهودهم، ويفقدهم القدرة على القيادة والتوجيه، فضلا عن كونه يعطل الكثير من الطاقات غير الموظفة.
الثانية: ضمن الفهم للحقيقة الأولى، يمكن تأكيد أن الآليات ليست واحدة للوصول إلى تحقيق هذه المكاسب ومراكمتها، وأن تنظيم الخيارات حتى والمعارضة خارج البرلمان، يمكن أن يوصل إلى تحقيق هذه النتائج ومراكمتها، كما يسهل الوصول إلى إنجاز على مستوى الملفات الكبرى، ومنها الملف الدستوري، وخصوصا إذا ما علمنا أن هذا الملف تحديدا، لكونه مرتبطا بالتوافق السياسي والدستوري بين المعارضة والحكم، فهو بحاجة إلى حلحلة الملفات المعيقة لهذا التوافق، ما يجعل من العمل على حلها أمرا في غاية الأهمية، لكونه يحقق الكثير من المكاسب للفئات المحرومة، ويسهم بشكل سريع في عملية التوافق بين الحكم والمعارضة.
نموذج «الوسط» مثلا، وما يقوم به السيد ضياء الموسوي من طرق الكثير من الملفات التي تتعلق بحياة الناس مباشرة، وقدرته على الإنجاز في هذه الملفات، خير دليل على إمكان التحرك بحرية واسعة حتى من خارج قبة البرلمان، وبالتالي فربط الواقع السياسي بكامل تعقيداته وهمومه بآلية بعينها أمر لا يخدم هذا الواقع في ظل محدودية خياراتها وأدواتها الدستورية، يبقى أن تقدير دخول أطراف معينة لتحقيق بعض المكاسب الجزئية، ولو في حدودها الدنيا، خاضع بشكل كبير لتأثير الدخول على الخيارات الاستراتيجية للمعارضة، ومن ضمنها تأثير الدخول على تأخير التوافق السياسي والدستوري بين المعارضة والحكم، في ظل إمكان تحقيق مكاسب جزئية خارج معادلة البرلمان ضمن آليات الضغط المشروعة.
الثالثة: إن بعض الإشارات إلى أن حراك المعارضة خارج إطار المعادلة السياسية التي رسمها المشروع الإصلاحي، أمر خاطئ وبعيد عن الموضوعية، فالمعارضة لم تكن في يوم من الأيام خارج إطار معادلة المشروع الإصلاحي، حتى لو كانت خارج جزئية من جزئياته لعدم التوافق عليها، والمطلوب من المعارضة في الأيام المقبلة أن تقدم مبادرات سياسية سلمية تؤكد حضورها وفاعليتها في الساحة السياسية، وموقعها من مشروع الإصلاح، ففي هذه المسألة تحديدا، يوجد تقصير من قبل المعارضة، ما يجعل من هذه التهم جاهزة ضدها، ويجب التأكيد أن المعارضة مطالبة بالتواصل مع الحكومة من خلال مبادرتها، وإجادة الدور الدبلوماسي والبروتوكولي حتى في إطاره الشكلي من دون التنازل عن الحقوق، لأن ذلك سيخفف من نسبة الاحتقان السياسي، وسيعيد جسور الثقة المقطعة.
أما على المستوى الخارجي، فإن حراك المعارضة في ظل الانفتاح السياسي سيكون أوسع من المرحلة السابقة، لشرح وجهات نظرها بشأن الكثير من القضايا المختلف عليها، وخصوصا إذا ما تم تثبيت المعادلة السلمية على أساس التعارض المشروع، وتم تحديد الأهداف والبنود التي يراد الاتفاق عليها بين المعارضة والحكم، وكان لدى المعارضة صبر على شرح موقفها، سواء على مستوى الداخل أو الخارج، ضمن رؤية تبتعد تمام البعد عن تشويش المعارضة على أجندتها بنفسها، بسبب سوء استخدام الخطاب السياسي في إيصال المطالب السياسية من دون إيصال مطالب أخرى خاطئة، وخصوصا حين التخاطب وشرح المواقف للجهات الخارجية.
الثالث - النظرة إلى العمل السياسي والبرنامج السياسي: قد يكون هذا الإشكال من أهم الإشكالات المعقدة التي تحتاج إلى توضيح دقيق، يمكن أن يسهم في معالجة الكثير من المقولات التي تتهم المعارضة بعدم وجود برنامج لديها من جهة، كما يسهم في تفهم المعارضة لدورها في قيادة العمل السياسي وصوغ برنامجها العام في ضوء رؤية واضحة، وفي هذا المجال، يجب أن تلتفت المعارضة إلى مجموعة نقاط مهمة.
الأولى: يجب التفريق بين برنامج المقاطعة، وبين البرنامج السياسي، فالمقاطعة جزء من الخيارات المهمة التي اتخذتها الجمعيات الأربع، بغية تصحيح الوضع السياسي والدستوري، وبرنامجها خاضع لطبيعة الأهداف التي وضعها المقاطعون، وأرادوا تحقيقها من وراء المقاطعة، أما البرنامج السياسي فخاضع للأجندة العامة التي هي موضع اهتمام المعارضة، ويجب أن تدار هذه الأجندة من خلال التخصص أولا، ومن خلال أصحاب الشأن فيها ثانيا، عبر إشراف مركزي وتوجيهي للمعارضة، وعلى رغم أولوية الملف الدستوري وتقدمه على بقية الملفات، كصورة من صور التخصص المتقدمة والمعقدة التي يتم توجيهها في بقية الملفات الأقل تعقيدا، فهو يعد أحد الأجندة، وليس كل الأجندة، ولا ينبغي تأجيل الأجندة الأخرى لحساب هذا الملف، لأنه خاضع بشكل قطعي لمعالجة طويلة الأمد، وهذه الصورة يجب أن تلتفت إليها المعارضة في مقاربتها لبرامجها السياسية صغرت هذه البرامج أم كبرت.
الثانية: ان حجم الملفات السياسية وغير السياسية التي تحتاج إلى معالجة واهتمام من قبل المعارضة، تفوق إمكاناتها وأطرها التنظيمية في شكلها الحالي، ضمن محدودية الكوادر والطاقات التي تعمل في الجمعيات السياسية، ووجود خلل تنظيمي في التبشير بهذه الجمعيات وبدورها في المجتمع، يتمثل في حصر المسئوليات والمهمات على فئات محدودة، وعدم إطلاق العمل السياسي خارج إطار هذه الفئات، مع التأكيد أن التذرع بنقص الكوادر ليس سببه عدم وجود الكوادر التي ترغب في العمل، وإنما السبب هو احتكار المواقع لصالح فئات محددة، وممارسة العمل السياسي من خلال القرابات والصداقات لا أقل ولا أكثر، ما يجعل المجتمع معزولا بكل ما فيه من إمكانات وطاقات عن هذه الجمعيات.
أما وقد استطاعت المعارضة أن تشكل استقطابا قويا لها من خلال نجاحها الكبير في المؤتمر الدستوري، فعليها أولا أن تتواضع، وأن تؤكد أنها بهذا القدر الضئيل من الطاقات والكفاءات غير قادرة على تنظيم عمل ميداني واسع وشامل لكل ملفات الساحة، وهذا يجعلها ملزمة بالتحرك الأفقي باتجاه الناس، فطبيعة التعقيد في المرحلة والملفات التي ستطرقها المعارضة مستقبلا، يجعل من الواجب عليها أن تحسب حساب خطواتها، وإمكان المواصلة فيها من دون إهمال أو ضعف في أداء مهماتها، لأن أي نجاح يعقبه فشل، سيدمر كل الخطوات التي تمت مراكمتها قبل ذلك.
والنصيحة للمعارضة أن تستثمر المجاميع الصغيرة التي تعمل على ملفات معينة، فتستقطبها وتجعلها ضمن الإطار التنظيمي الذي يفعل ويحرك هياكل الجمعية، لأن مجرد التفكير في حجم الملفات وتشعباتها يصيب أي ناشط سياسي بالهلوسة إذا ما أراد التصدي لها جميعا، واستثمار المجاميع الصغيرة سيؤدي مفعوله في نتائج مذهلة، وخصوصا إذا ما كانت هذه المجاميع راغبة في العمل ومتحمسة لإنجازه.
ختاما: توجد حاجة ماسة لدى المعارضة للتفكير في خياراتها بشكل جدي، وبناء سلم من الأولويات قائمة على البعد الإجرائي والمنهجي في العمل السياسي، من دون التردد في طرح الخيارات والمبادرات السياسية، وشغل الواقع السياسي بما يحركه ويبعده عن الجمود والفوضى، ويعزز فيه الثقافة السلمية القائمة على أساس التعارض السلمي المشروع، ومن دون ذلك، فالأخطاء المنهجية التي تمت مراكمتها في الماضي والحاضر، كفيلة أن تقضي كل المنجزات السياسية، في ظل إصرار المعارضة عليها، وقبل كل شيء، على المعارضة، وخصوصا القيادات منها ان تتواضع وتسمع لرأي الآخرين
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 554 - الجمعة 12 مارس 2004م الموافق 20 محرم 1425هـ