ميتافيزيقا عاشوراء، عنوان يظهر على شيءٍ من الغموض الذي يستلزم تحويله إلى مبحث واضح، من خلال شرح المعنى المقصود في مصطلح «ميتافيزيقا» في موضع استخدامه ثم تبيان مقاصد البحث وأغراضه وعليه تكون هذه الإفصاحة، بمثابة القول في المنهج، لجميع المباحث اللاحقة التي يمكن أن تدخل في المعنى العام لميتافيزيقا عاشوراء. وهذا المبحث ليس تمهيدا نظريا، بقدر ما هو قول في المنهج.
ما معنى الميتافيزيقا؟
يعرف المعجم الفلسفي، الصادر عن مجمع اللغة العربية:
1- ميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة) Métaphysique اسم كتاب لأرسطو يجيء ترتيبه بعد كتاب الطبيعة، وأطلق عليه هذا الاسم مشائي من رجال القرن الأخير قبل الميلاد وهو أندونيقوس الروديسي، الذي جمع كتب أرسطو .
2- أحد أقسام الفلسفة وقد اختلف مدلوله باختلاف العصور تبعا لقصره على مشكلة الوجود أو المعرفة.
ومن أهم هذه الدلالات:
أ- عند أرسطو والمدرسيين، هو علم المبادئ العامة والعلل الأولى ويسمى الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي.
ب- عند ديكارت: معرفة الله والنفس.
ج- عند كانت: مجموعة المعارف التي تجاوز نطاق التجربة وتستمد من العقل وحده.
د- عند كونت: معرفة بين اللاهوت والعلم الوضعي تحاول الكشف عن حقيقة الأشياء وأصلها ومصيرها.
هـ- وعند برغسون معرفة مطلقة نحصل عليها بالحدس المباشر.
وعليه فإن الميتافيزيقا عنوان مقالة أرسطو (384 322 ق. م) وصفها فيها بأنها علم الوجود بما هو كذلك واعتبرها أسمى دراسة عامة للوجود Existance أو الحقيقة، وعدّها متميزة عن العلوم الخاصة وأعمق منها واستدل أرسطو على ضرورة وجود الميتافيزيقا لأن العلوم الخاصة التي يعالج كل منها موضوعا خاصا به، تشترك في استخدام مفاهيم عامة كالذاتية Identity والاختلاف Difference والوحدة unity والتعدد Plurality وما أشبه وهي بمجموعها تكون موضوع علم الوجود العام أو (الميتافيزيقا)، وأما الأقسام المختلفة الأخرى من الوجود التي لكل منها سماته الخاصة فتكون موضوعات الدراسات الجزئية وكما تبين من دراسة تاريخ المصطلح الفلسفي في تعريف المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربيّة.
فإن القول إن الميتافيزيقا أسمى دراسة عامة (للوجود) تستلزمها العلوم الخاصة على نحو من الأنحاء قول لا يخلو من الصواب في صور متفاوتة عند الفلاسفة القدماء والمحدثين، وإذا شارك نفرٌ من الميتافيزيقيين أرسطو الرأي في طبيعة الميتافيزيقا العامة والشاملة والقصوى، فإنهم لا يذهبون جميعهم في منحى أو اتجاه واحد، بل يحمل المصطلح طبيعته المتغيرة مع الفلسفات المتغيرة، ولعل مسألة تأسيس الميتافيزيقا للعلم أو للتاريخ كانت موضع نزاع رئيسي في تقلب طبيعة الميتافيزيقا، ذلك أن المصطلح اكتسب على الدوام إضافات جديدة.
يرى أفلاطون أن العلم الرياضي، وكان مسيطرا على اليونان متصلا بمبدأ مطلق ضامن للرياضة هو مبدأ الخير الذي لا يمكن معرفته إلا ميتافيزيقا، بل إن ديكارت أبا الفلسفة الحديثة يعتبر مبادئ الفلسفة أساسا لسائر المعارف الأخرى كلها، وفي المذاهب الفلسفية التقليدية يرتبط هذا الأساس غالبا (بكائن ميتافيزيقي هو الله) ومع ذلك فإن مذاهب فلسفية معاصرة كثيرة لا تلجأ إلى فكرة الله، وتدعي في الوقت نفسه الوصول إلى المعرفة المطلقة بطرق مختلفة فكنت Kant يضع أساسا مطلقا للمعرفة، هو الشعور الخالص العياني conseienee Pure transeendentale، أما الفيلسوف الوجودي هيدغر فيقيم هذا الأساس على ما يسميه الوجود ويرى أصحاب المذاهب الميتافيزيقية أن المعرفة العلمية هي معرفة جزئية دنيا مشتقة من معرفة المطلق فمعرفة المطلق أصل ومعرفة الجزئي فرع، وشتان بين الأصل والفرع فالعلم إذن من دون الفلسفة وفي جميع الأنظمة الميتافيزيقية يعد الوجود بحد ذاته مشكلة مستعصية فقد ينعدم كل شيء وما المانع من ذلك؟
ولابدّ أن الناس نظروا إلى الوجود على هذا النحو عندما أمعنوا النظر في حقيقة الوجود المجردّة واعتبروها سرا دفينا يجب تفسيره ومن الملاحظ أنه إذا اعتبرنا هذه الحقيقة سرا من الأسرار تعين علينا أن نتلمس تفسيرا للكون يقوم خارج حدود الكون نفسه وبكلمة أخرى لزم أن نبحث عن تفسير الكون تفسيرا ترانسنداليا (متعاليا) أي عن شيء يقوم وراء الوجود كله ويفسر سبب وجود الأشياء على الإطلاق.
في مقالته الشهيرة «المدخل إلى الميتافيزيقا» يقول الفيلسوف هنري برغسون Henry Bergson إذا قارن المرء بين التعريفات المختلفة للميتافيزيقا وتصورات المطلق لاحظ أن الفلاسفة يتفقون على رغم ما بينهم من اختلافات ظاهرية على التمييز بين طريقتين تختلفان اختلافا عميقا في معرفة شيء ما. ومضمون الأولى أن الإنسان يحوم عن هذا الشيء، بينما مضمون الثانية، أنه ينفذ إلى داخله، وتخضع الأولى للموقف الذي يقفه المرء وللرموز التي يستخدمها في التعبير، أما الثانية فهي لا ترجع إلى أي موقف ولا تعتمد على أي رمز وسيقال عن المعرفة الأولى انها تقف عند (النسبي) وعن الثانية انها تبلغ «المطلق» حيثما تكون ممكنة.
يضرب برغسون أمثلة عدة لإثبات نظريته هذه، لكننا إذا حاولنا تطبيق ما ذهب إليه بشأن (المعرفة التاريخية) نجد أنفسنا في إزاء معرفة تاريخية مرتبطة بالمطلق من حيث غاية المعرفة وبالحدس من حيث طريقتها أو منهجها.
في مقالة «الميتافيزيقا والتاريخ» يقول بي آل كاردنر .Gardiner P. L
لاشك في أننا ألفنا أسئلة مثل: «من انتصر في معركة واترلو؟» و«ما أسباب الحرب الأهلية في إنجلترا؟» وكلها تدور حول شخصيات تاريخية ووصف الأعمال التي قاموا بها وأسبابها. ومن البين أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة أمر عسير لا يتم إلا باللجوء إلى البينات والمصادر التاريخية وهي أهم وظيفة يضطلع بها المؤرخون.
على أن أنواعا أخرى من الأسئلة تدور حول التاريخ كذلك. فقد نرغب مثلا في البحث عن الطرق التي يستخدمها المؤرخون في مناقشة الأسئلة التي تقدم ذكرها وأشباهها والقول الفصل فيها. لذلك نتساءل: كيف يختار المؤرخون البينات المتوافرة لديهم ويفسرونها؟ وما الحجج التي يستخدمونها للتدليل على صحة النتائج التي يتوصلون إليها؟ وماذا يعني المؤرخون ببعض أحكامهم؟ وما الأمور التي يلتزمون بها؟ ومن هذا يتضح أن هذه الأسئلة تتعلق بمنطق التاريخ ومناهجه، فهي لا تبحث في التاريخ باعتباره سلسلة من الحوادث بل في التاريخ من حيث أنه مجموعة من أقوال المؤرخين وجهودهم في سبيل تفسير الحوادث التاريخية ووصفها.
على أن نوعا ثالثا من الأسئلة يواجهنا ما لا يدور حول حوادث تاريخية معينة ولا عن المنهج التاريخي، بل يتعلق بالعملية التاريخية من حيث هي كل. ولذلك نلاحظ الناس بين الفينة والفينة يتساءلون: هل يسعى التاريخ على العموم إلى تحقيق هدف أو غرض معين؟ وهل يشكل التاريخ نسقا ملتئما متوافقا؟ وهل تتحكم قوانين كلية في اتجاهه وتطوره؟ وهل يمكن تعقله وفهمه؟ وما يذكر أن هذه الأسئلة وما جرى مجراها افضت إلى نشأة النظريات الميتافيزيقية في التاريخ.
على أن من الخطأ القول ان كل الأسئلة التي تدور حول العملية التاريخية من حيث هي كل تؤول إلى الميتافيزيقا. إذ ان بعض النظريات التاريخية صيغت بلغة تدل على أن أصحابها أرادوا بها أن تكون اختبارية (تجريبية). وبكلمة أخرى، ان هذه النظريات فيما يبدو تستند إلى حقائق تاريخية عرفناها من خلال كتابات المؤرخين أنفسهم وتتحقق بواسطتها.
فمثلا قد يكون من أهداف النظرية أن تبين أن سير التاريخ يعكس اتجاها معينا كزيادة السيطرة العلمية على الطبيعة أو زيادة التنور العقلي والروحي أو تحقيق مثل سياسية معينة مثل الحرية الفردية. وأنا لنجد نظرات كهذه عند عدد من رجال الفكر في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر كوندرسيه condorcet وهربرت سبنسر Herbert Spencer. يضاف إلى هذا أن نظرية حديثة في التاريخ كالتي يبسطها توينبيProfessor Toynbee في كتابه دراسة التاريخ A study of history قد تقرّ وجود قوانين تحدد فيما زعم نمو الحضارات وانحطاطها. ويرى توينبي أن طريقته «استقرائية» أي أن القوانين التي وضعها استقرئت من دراسة تطور الثقافات المختلفة دراسة مستفيضة وحققت بواسطتها. وسواء أكان النهج الذي يتخذه توينبي سليما أم لا وسواء أكانت كتابته للتاريخ منسجمة مع هذه المبادئ أم لا فتلك مسائل أخرى لا علاقة لها بطبيعة الحال بالموضوع الذي نتناوله ها هنا. بيت القصيد أن نظريته هذه اعتبرت اختبارية خاضعة لاختبارات الحقائق المشاهدة ولها وحدها.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان إذن هو: ما الذي يميز التفاسير الميتافيزيقية للتاريخ عن أمثال تلك التفاسير؟ للإجابة عن هذا ندرس مثالا بسيطا. رأى كانت Kant أن التاريخ يكشف عن تحد يمكن وضعه في شكل سؤال هو: ما السنة العقلية التي تتحكم في سير التاريخ باعتبار عملية واحدة؟ واعتقد أن حل هذا السؤال يقوم في دراسة الخلق «الطبع» البشري Human Character. وخلص منه إلى أن الطبيعة غرست في الكائنات البشرية بعض الطاقات التي لا مناص من أن تنكشف تماما وبما «يكفل» تحقيق غايتها مع مرور الزمن. ولذلك يجب أن نقول إن التاريخ يتحرك وفق (سنة الطبيعة) في سبيل تحقيق تلك الطاقات الكامنة. وقد اعتقد كانت أن سير التاريخ إلى هذا اليوم يشهد بصدق هذا التأويل.
استعنا بهذا النص الطويل، لكاردنر لنبين أهمية الميتافيزيقا، في بحث الوقائع والحوادث التاريخية لكنه حتى يستقيم منهجنا في تبيان المعنى المقصود من «ميتافيزيقا عاشوراء» يلزم أن نبين معنى الميتافيزيقا المكتسب في الفلسفة الإسلامية، وما نفيده من هذا المعنى في دراسة تطبيق النظر الميتافيزيقي على «واقعة عاشوراء التاريخية» وذلك لعدة اعتبارات تظهر لاحقا، في ما ندعوه بالفينومينولوجيا الإسلامية مقارنة مع فينامونيوجيا الهيجليَّة من حيث وضع الدين، في المكان الذي سبق لهيجل ووضع فيه الفلسفة.
فإذا كان كانت جعل من العقل محور فلسفته فإنه جعل لهذا العقل ومعرفته حدودا هي الاقتصار على معرفة الظاهرة، أي معرفة الأشياء كما هي، لا في جوهرها الأخير أي في ذاتها عالم الظاهرات هو عالم العقل أما عالم النومينات noumeng أي الأشياء في ذاتها فقد أغلقه أمام العقل المحض فجاء هيجل ليفتح كل الأبواب أمام العقل وليؤكد أن «ما هو عقلاني هو حقيقي وما هو حقيقي هو حتما عقلاني» وبالتالي فإن كل تاريخ البشرية هو تاريخ العقل أو الروح وتطوره في المراحل المختلفة عن طريق الديالكتيك من الروح الذاتي إلى الروح الموضوعي إلى الروح المطلق وبالتالي الفلسفة تصبح إدراك ما هو كائن لأن ما هو كائن هو العقل، فالفلسفة تختصر زمنها. في الفكر الفلسفة أرخنة المقولات وأرخن Historiser تعني محاولة التفسير بالتقدم التاريخي وبمعنى صيرورة التاريخ لكل مقولة من مقولات الذات والفاعل والموضوع والكيف والحرية مع هيغل الفلسفة دخلت كلها في التاريخانية Historisme أي تلك المدارس الفلسفية التي تؤمن بالتقدم المستمر لتاريخ البشرية.
لن ندخل تفصيلا في مبحث معنى الفلسفة وتطوره عند المسلمين لكن نكتفي بالقول إن تعريف الفلسفة عند الكندي والفارابي وابن سينا وإلى حد ما ابن رشد لم يخرج عن المعنى الأرسطي إلا من حيث ارتباط الفلسفة بالدين والوجود بواجب الوجود، ومعنى ذلك أن البحث الفلسفي، هو السعي لمعرفة الله أو المطلق، أو الحق بالطرق الفلسفيّة، ولذلك كان هذا البحث واجبا ومشروعا، وذلك هو مضمون المشروع الرشدي لنصره الفلسفة والتوفيق بين الدين والفلسفة لكن مهمة التوفيق الصعبة، واجهت عند ابن رشد مشكلة معنى الفلسفة فالصعوبة تقوم في التوفيق بين الفلسفة بالمعنى الأرسطي، وبين الدين، على رغم محاولات فلاسفة العصر الوسيط المتأثرين بابن رشد بيان إمكان التوفيق ومشروعيته.
كان نصيب الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد في تحقيق مهمة التوفيق بين الدين والفلسفة أكثر نجاحا، لاعتبارات تعود إلى اكتساب معنى الفلسفة، في مرحلة ما بعد ابن رشد إضافات جديدة جعلت منها فلسفة قرآنية، أو فلسفة نبوية، وفلسفة إلهية، بمعنى غاية الفلسفة وموضوعاتها الكبرى، تتوجه أصلا إلى معرفة الله وحبه، وهذه المعرفة العشقية أخذت شروطا جديدة تمثلت في حركة التصوّف وفلسفة الحب الإلهي والتجليات، ووضعت لنفسها نسقا وجوديا، يجعل من البحث في الوجود مقدمة للعلم الإلهي، أيّ للبحث في الإلهيات أو عليه أضحت الميتافيزيقا هي الفلسفة وهي فلسفة إلهية باعتبارها فلسفة دين على وجه الخصوص.
ومثلت مدرسة الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي، الحلقة الكبرى في هذه الفلسفة، والمؤسسة لما يمكن اعتباره الفلسفة الإسلامية الحديثة، التي تطورت في حلقاتها اللاحقة، لتكون تعبيرا عاليا عن حركة العقل النبوي في ساحة الوجود وفي الساحة التاريخية وفيها نجد أبرز اتجاهات الميتافيزيقا الإسلامية المعاصرة.
ــــ إن النظر الميتافيزيقي لواقعة عاشوراء، يقوم على اعتبارها، تجليا من تجليات العقل النبوي (أو الفلسفة النبوية) في ساحة التاريخ الإنساني، وباعتبارها على هذه الحقيقة، فإن تجلياتها أو ظهوراتها تتحقق في ساحتين.
ــــ الساحة الأولى وجودية، أو تمظهر العقل النبوي في الوجود وتشمل وقائع حادثة الطف كما تناقلها الرواة على اختلاف ميولهم، شرط دراسة هذه الروايات دراسة نقدية، وقبول ما يتفق فيها مع حركة العقل النبوي، واعتبارها جزءا من حركة هذا العقل، تندرج في آليته العامة، وشروطه الإلهية، تماما، كما هو الأمر مع النص المقدس، في الكتاب والسنة، لاعتبارها تقريرا من أعمال الإمام المعصوم. وهذا الظهور للعقل النبوي في ساحة الوجود، يصدقه، على صعيد علم أصول الفقه، ما يعتبره المسلمون الشيعة من سريان (مرحلة التشريع) في عصر الأئمة إذ تبدأ مرحلة الاجتهاد عند الشيعة مع الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر.
وبالمعنى الفلسفي فإن الروح أو العقل في هذا الظهور، يكون في مرحلته العقلية الخالصة وهي مرحلة ظهورات الوحي المتتابعة مع أقوال وأعمال وتقريرات الرسول ومن بعده الأئمة المعصومين، وعليه لا يمكن التعامل مع هذه المرحلة، ومنها حادثة عاشوراء، كفعل للعقل في مرحلة خروجه من دائرته الخاصة إلى دائرة خارجه، بل استمرار فعله الخاص في الوجود المتحقق إنه السفر من الحق في الحق، في تجليات أسمائه داخل دائرة النبوة والولاية على صعيد القول والعقل والتقرير.
ــــ الساحة الثانية لهذه التجليات هي الساحة المعرفية أو الظهور الإبستمولوجي، وتقوم على قدرة العقل الإنساني في دراسة ما حققه العقل في سفره من الحق إلى الحق في الحق، من خلال السفر الرابع الذي يتميّز عن السفر الثاني، بواسطة تحقق العقل نفسه من ذاته باعتباره عقلا نسبيا منفتحا على المطلق يبحث في مسار السفر من الحق إلى الحق، كما يتجلى في الخلق، إنه دراسة لتجليات سفر (العقل المطلق) من جانب أو (العقل النبوي) في الوجود وساحاته المختلفة. وإذا طبقنا منهج اعتبار المراحل المختلفة لظهورات العقل النسبي برهاتٍ متتابعة في سعيها إلى المطلق تظهر معنا نتائج في غاية الأهمية من حيث إدراك دور هذا العقل في حركته داخل الظهور التاريخي له.
تؤدي دراسة ميتافيزيقا عاشوراء، إلى كشف معاني هذه التجليات الوجودية والمعرفية التجليات الأولى تكشف لنا عن القواعد العامة لحركة (العقل النبوي) في واقعة تاريخية محددة هي واقعة الطف، وكل ما يستخلص منها هو بمثابة القواعد المنهجية والتأسيسية في عمل هذا العقل في ساحته الخاصة باعتباره عقلا نبويا محضا، والتجليات الثانية، في تحقق قواعد هذا العقل النبوي المستفادة من حركته الوجودية في عاشوراء داخل التاريخ، أو حركة الساحة التاريخية. ومجموع هذه التجليات مع تحققها التاريخي هي المقصود المباشر لتعبير «ميتافيزيقا عاشوراء».
لقد عرف التاريخ حركات ثورية عدة، ما موقع هذه الحركات من ثورة الإمام الحسين ما الذي يميز ثورة الإمام الحسين عن الثورة الفرنسية، أو الثورة البلشفية أو الصينية، أو الثورة الإسلامية في إيران؟ هل يشبه الإمام الحسين، قادة هذه الثورات وهل يمكن قياس المفاهيم والدروس في هذه الثورات على ثورة الإمام الحسين أو قياس ثورة الإمام الحسين عليها. هل يشبه الإمام الحسين، قادة هذه الثورات أو يشبهونه وأين مجال المقارنة والاتفاق والاختلاف فيها؟
- وفق نظرتنا إلى «ميتافيزيقا عاشوراء» تمثل هذه الثورات برهاتٍ متتابعة في حركة ثورة الحسين في التاريخ، مثلما تمثل حركة النسبي برهاتٍ في المسار نحو المطلق، فهي تندرج فيها كبرهاتٌ متتابعة ولكل منها نصيبه من الظهور الوجودي والمعرفي في مساره إلى مطلقه المتحقق في تجليات العقل النبوي على مستوى الظهور التاريخي في شكله المتحقق بواقعة الطف. وعليه تنال هذه الثورات نصيبها من القرب والبعد وفق تحققها الوجودي والمعرفي، أو مستوى التجلي الذي للمتجلى ذاته، ووفق نصيبه من الوجود ومن الحقيقة المتحصلة وجوديا ومعرفيا في ثورة الإمام الحسين.
ومدار المقارنة، ومعرفة برهات هذه الثورات يقوم أصلا على معرفة ميتافيزيقاها، إن دراسة ميتافيزيقا الثورة الفرنسية أو غيرها من الثورات في الساحة التاريخية يحدد موقع هذه البرهة في المسار الحسيني، إذا صح التعبير، وعليه فإن ثورة مثل الثورة الإسلامية في إيران أو حركة المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، يكون لها نصيب أعلى من التحقق الوجودي والمعرفي في مسار ثورة الإمام الحسين التي لن تجد مطلقها التام إلا في ظهور الإمام الثاني عشر المهدي (عج). ومن الناحية الوجودية والمعرفية لأنه في ظهور المهدي، يتحقق المعنى التام للوجود وللحقيقة القرآنية، ولذلك ذهبنا إلى أن ميتافيزيقا عاشوراء هي أصول الدين: التوحيد، النبوة المعاد، الإمامة، والعدل، بمعنى أن انكشاف المعنى المطلق لهذه الأصول في ظهورات تاريخية، فيها تحقق خاص في ثورة الإمام الحسين، وفي ظهور الإمام المهدي قيما الثورات الإنسانية الأخرى برهات يتفاوت نصيبها من الظهور والتجلي بقدر ما تحقق أحداثها من مطابقات مع الميتافيزيقا الأساسية للإسلام وإذا كانت هذه الأصول الإلهية هي الدين كله للإنسانية جمعاء وهي اكتمال الدين وختم النبوة واستمرارها في دائرة الولاية حتى ختمها مع ظهور الإمام ولي العصر والزمان تكون كل واحدة من الثورات الإنسانية خطوة في حركة الإنسان نحو المطلق، وتحقيق غاية الخلق ولا يتم هذا التحقيق إلا عن طريق النبوة والولاية، الأمر الذي قصدناه في اختبارنا دراسة «ميتافيزيقا عاشوراء» كميتافيزيقا للقيامة أو للظهور.
يؤسس هذا المقال لمنهج جديد في الدراسات العاشورائية، قادر على النفاذ إلى الحقيقة، وليس الدوران حولها وفق تعبير برغسون، ولا ندعي أن ما خصصناه من مباحث متواضعة صورة صدقية لتطبيق هذا المنهج بشكله الأوفى، بل لعل غيرنا أقدر منا على ذلك، تبعا للاختصاص في موضعه، لكن دور النظرة الميتافيزيقية هي التأسيس لمعرفة الحقيقة في تجلياتها المتعددة. إن ثورة عاشوراء تشبه نصا ميتافيزيقيا، يلزم قراءته لمنهج ميتافيزيقي، لاستخلاص معرفة تنفذ إلى قلب الحقيقة، ويكون ذلك بواسطة منهج العقل أو منهج الحدس، أو منهج الاستنطاق، وكل واحد من هذه المناهج قادر على معرفة جوانب من هذه الحقيقة الجامعة لكل إمكانات التجلي مع تطورات حركة المعنى في الزمان. ولعل بسبب ذلك (كما أعتقد) تختلف قوانين النظر في ثورة الإمام الحسين عنها في الثورات الإنسانية الأخرى، فإذا ما تقررت قوانين معينة في الثورات الإنسانية من نوع دراسة الظروف التاريخية والإطار الزماني لهذه الثورات وكذلك الإطار الفكري، وقواعد النصر والهزيمة، وموازين القوى والاستراتيجيات المتبعة وكذلك النتائج المترتبة عليها في المستوى الفكري والسياسي، فإن هذا النظر يرتبط بآلية عمل العقل الإنساني النسبي على اعتبار سعيه إلى المطلق، فيما لا يمكن تطبيق هذه القواعد في دراسة طبيعة الثورة الحسينية، وظروفها التاريخية والنتائج المباشرة التي أدت إليها ولعل الدراسات العاشورائية كافة وقعت في جاذبية هذه المقارنة، فنظرت كل فئة فكرية إلى ثورة الإمام الحسين من الناحية التي تناسبها ووفق الرؤية التاريخية والكونية لها، ونقد هذه الدراسات يبدأ من إدراك هذا الفارق الجوهري، والاشتغال على الخاصية لظاهرة الثورة الحسينية كفعل وتقرير في مجال تجليات العقل النبوي متمثلا في الصفة الأساسية لميتافيزيقا عاشوراء، أو لنظرتها الكونية العامة.
إن الإمام الحسين (ع) ليس قائدا، يشبه قادة الثورات الأخرى، لخاصيته كإمام معصوم، يدور فكره وعمله وتقريره في دائرة الحقيقة المحمدية، ودائرة دور النبوة والولاية في الساحة الإنسانية إنه فعل الحق في مدار الخلق وقوانينه، مستفادة من حركة العقل النبوي، كعقل مفارق أو جوهر مفارق، في مسار تحقق فعل النبوات، كخيار إلهي لتبليغ الرسالة، في صيغة الدين الإلهي التام والخاتم للرسالات بمعنى الحافظ والجامع والرافع لها إلى مستوى الكمال وتأدية الرسالة التامة.
هل تحقق هذه الخاصية دور الرسالات الإلهية في التبليغ الإنساني أو تحقيق الغاية منها. إن جوهر هذه الرسالة التبليغ والهداية للإنسان، لكن هذه الخاصية ترتبط في مستوى الإدراك الإنساني لحقيقة النبوة وحقيقة الرسالة، ومن أجل ذلك يكون النظر إليها وفق خاصيتها المذكورة هو الضامن لمعرفة الحقيقة، وتبليغ الرسالة الحقة، كما كان إله الخير عند أفلاطون الضامن ميتافيزيقيا لحقيقة الرياضيات وكما هو جدل العقل في الفلسفات الإنسانية، ضامن لمعرفة الحقائق والحكم على قيمة صدقيتها، وكما هو الأمر في معرفة الظواهر والوصول إلى الشيء في ذاته، من دون الدوران حوله، وعدم النفاذ إلى لب الحقيقة فيه وهذا الأمر لا يكون إلا بقراءة عاشوراء على قاعدة ميتافيزيقاها، أي حقيقيتها المطلقة.
لقد آن الاوان لدراسة مظاهر حركة العقل النبوي في مسرى التاريخ الإنساني، تلك هي فينومونولجيا الروح التي ندعو إليها والتي تبشر بإعادة قراءة حركة العقل والمعرفة الإنسانية وفق المنطق القرآني، وليس المنطق اليوناني، والجدل الآخر المرتبط به من نواحٍ عدة، كما هو من برقلس وبرمنيدس وأفلاطون وأرسطو، إلى ديكارت وسبينوزا، وهيجل، وماركس وغيرهم من أرباب الجدل الفلسفي ودوائره المتتابعة.
إن دراسة ظاهرة الثورة الإسلامية في إيران التي قادها الإمام الخميني، وفق قواعد إسلامية مستفادة من قوانين العقل النبوي وحركته في التاريخ تقدم نموذجا إنسانيا معاصرا لفعل حركة هذا العقل في التاريخ الإنساني، وتبين مدى استفادة العقل الإسلامي في حركته من حركة العقل النبوي في التاريخ، بل تعطي المصداق التاريخي، بمعنى الزمني المتحقق لظهورات حركة العقل النبوي في برهاته الزمانية والإمام الخميني، كان مدركا بقوة لهذه الحقيقة، ولذلك قال مشيرا إليها، كل ما لدينا هو من بركات عاشوراء وينطبق هذا المثال على ثورات إسلامية أخرى قديمة وحديثة، يستطيع الباحث المحقق العودة إليها لدراستها وفق قوانين فينومينولوجيا الروح الإسلامي، في الساحة التاريخية، مطبقة على تاريخ الحركات الثورية في الإسلام كمصاديق زمانية، لثورة الإمام الحسين . كما وأن الثورات الإنسانية الأخرى تظهر جوانب من هذه المظاهر كلا وفق طبيعتها الميتافيزيقية ورؤيتها الكونية الشاملة ويندرج هذا المسار في مراحل تحقق ظهورات العقل النبوي في التاريخ الإنساني حتى تظهر الحقيقة الكاملة له في زمن الظهور.
ما يحصلُ في هذه القاعدة أن النسبي يسعى إلى المطلق وأن المطلق يجمع في تمامه كل برهات النسبي المتعاقبة، النسبي هو المسار فيما المطلق هو الصيرورة، وتلك جدلية العلاقة بين المبدأ والمعاد، بين الثورة كفعل قائم، أو فعل قيام، والثورة كفعل قيامة، مناط الشعار العاشورائي: «كل أرض كربلاء، كل يوم عاشوراء» إنه قدرة الميتافيزيقا العاشورائية، على التجلي، كوجود، وحقيقة على السواء
العدد 545 - الأربعاء 03 مارس 2004م الموافق 11 محرم 1425هـ