العدد 544 - الثلثاء 02 مارس 2004م الموافق 10 محرم 1425هـ

«ذكراك وهج السنا في الأفق يتقدُ وروعة الخُلدِ يجثو عندها الأبد»

عاشوراء من الشراكة في الحزن إلى الشراكة في الحياة والمعرفة

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

كل عام، على قيد أيام وجرة دمع، من طيف الطف يسري الصوت من أذين القلب وجيبا، إلى طبقات الأذن، يدب دبيبا... كأنما قرية من نمل عظيمة تسرح في شبكة الأعصاب، من الأذن إلى العين، ويحضر المشهد، ألملم شلوا من هنا وبقية سهم دامٍ من هناك، وبقايا من خيمة محترقة، وركوة أعدت لري الأطفال العطشى فامتلأت رملا... ولا سبيل إلى الخروج من كربلاء إلا دلجا... أتخذ الليل جملا، أتنكب المسالك السالكة، إلى الوعرة المحتشدة بالشيح والشوك والحنظل، أتقي عيون العسس، أداري المشهد المنغرز في شبكة العين حتى لا يطفرَ ويطفو على صفحة وجهي ويقودَني إلى حتفي... فالحب والإيمان والعدل، تهمة، ودلج الليل ارتكاب يستوجب حدا هو القتل بالسيف تقطيعا أو الصلب على جذع النخلة صبرا واحتسابا... وزيارة القبر الشريف، بعد عشرات من السنين أو مئين، قطع للأيدي والأرجل من خلاف... ولا ينقطع الزائرون للحسين عن زيارته، ويرفع المتوكل درجة العقوبة إلى القتل. ويكثر القتلى الذين يحيون بالمقتول في الطف... ومن العين إلى الشفتين، تسقط الدمعة، كأنما هي ساقطة في بئر معطلة، كأن العين في عاشوراء منجم ملح... ملح في عيوننا، ملح في شفاهنا، وبالذاكرة المملحة نملح أيامنا... ولا نزيد حتى لا يفسد علينا الزمان ولا الإدام الحسيني الشهي.

وإلى أين؟... حتى الآن، لا بأس، شرط حساب الفوارق في الزمان والمكان والإنسان، وعليه فكلنا حسينيون، وإذا كان لابد من يزيد ماثل شاخص، فلنلتمسه خارج المدينة، خارج الوطن، أما في الوطن فنحن نختلف، فإذا أنتج الخلاف جورا، أي تعدى المتفق عليه من مسئولية كل منا عن الآخر نعترض، نحتج، نستعصي إلى أن يعود الجائر عن جوره والظالم عن ظلمه، من دون دم، من دون تخريب للعمران والإنسان والأوطان.

إذن فيزيد في الخارج هو ذاك الذي يريد أن يقوضنا مبنى ومعنى، وهو حالة قبل أن يكون جماعة أو فردا، ونحن أفرادا وجماعات، من المحيط إلى الخليج، ومن طنجة إلى جاكرتا، حال أخرى، هي مجموع حالات، في مواجهة حال يزيدية أخرى، هي بدورها مجموع حالات، تلتقي على نصاب حضاري وثقافي ناقض لنصابنا، وتمتد من واشنطن إلى تل أبيب، وهنا يصبح الفرنسي والألماني والإسباني وغيرهم وغيرهم رغما عنهم، ملحقين بنا مستوين معنا، على سياق محفوف بالمخاطر الآتية من الجموح الإمبراطوري الأميركي، ولن تجدينا ولن تجديهم، إلا الوصلة التي نتدبرها معا، بين كربلاء والجلجلة، بما يحملان من توحيد وعدل وإيمان وثقافة وطموح إلى التجديد في الإنسان والعمران، لنتقي مخاطر اللهو واللغو والاستئثار والجور والجهل اليزيدي المتجدد على معطيات علمية عمياء مشغولة بالحسابات المبيّتة والآيلة إلى تحويل البشرية إلى أرقام مطفأة... وللحالة اليزيدية العالمية المعاصرة، علامات في بلداننا وأوطاننا، هي اخترعتها وهي نَصّبتها أدلة لآلتها وآلهتها... إنهم وإن يكونوا كثرا إلا أنهم أفراد، التمسوهم بعيدا عن الجماعات الدينية والوطنية المؤتلفة في ما بينها على الإيجاب لا على السلب، على الحب لا على البغض، على الحوار لا على القطيعة، على الخوف من العدو لا من الصديق ولا من الشقيق. المؤتلفة على ذاكرة مفتوحة على الجمع لا على الطرح، على الوحدة والممانعة لا على الفرقة المميِّعة...

ومَن من جماعتنا الوطنية، أيا كانت خصوصياتها الدينية أو المذهبية أو السلالية، تجد في إيمانها وتراثها وفكرها وقيمها متسعا لجائر أو مجرم أو متعسف؟ هل استفتى أحد أهل العراق سوى صدام على صدام؟ ومن الموصل إلى سامراء إلى بغداد إلى الأنبار مرورا بكربلاء والنجف وانتهاء بالبصرة الصابرة... حتى لا ننسى تكريت ولا قرية العوجة المظلومتين مرتين، مرة باختزال النظام ومرة بدفع أبريائها ثمنا لارتكابات المرتكبين منهم! كما أننا عرب بنسب مختلفة لوعينا لعروبتنا، وكما أننا مسيحيون بنسب مختلفة لوعينا بمسيحيتنا، وكما أننا مسلمون بنسب مختلفة لوعينا بإسلامنا، وكما أننا مظلومون بنسب متقاربة لوعينا بمظلوميتنا، وكما أننا ظالمون لبعضنا بعضا بنسب متفاوتة لوعينا بظلمنا، نحن حسينيون بنسب تختلف وتتفاوت وتتقارب طبقا لمعرفتنا بمكوناتنا وقيمنا وأعدائنا وأصدقائنا والمخاطر التي تنتظرنا وبمقتضيات وحدتنا وكرامتنا وموجبات العزة والسلامة والحياة والحرية في غدنا.

أما أن نستقبل أمسنا في يومنا كما لو كان الأمس، كل الأمس بكل ما فيه ومن فيه هو غدنا... فلا أدري... ولا أريد أن أصادر أو ألغي، ولكني معني وباحث عن أدوات الجمع وعلاماته، والجمع ليس بالضرورة أن يكون عشوائيا، يمكن أن يكون انتقائيا إلى حد بعيد، مع الحفاظ على أقصى درجات المرونة في الفرز، لا رخاوة ولا تعسف، وعلى قدر من النسيان الذي يدخل في تعريف التاريخ وفي شروط المستقبل... أي النسيان الذي لا يصل إلى درجة الخلط بين الحق والباطل، والذي يتجاوز ما من شأنه التجاوز ويلتمس العذر لأهل السهو والنسيان ومن يرتكبون السوء بجهالة... أما المتجاهلون، أما الجاهلون، المصروّن على الجهل والجهالة، فلا يؤخذ الحاضر بجريرة الماضي... ولا أدري ما إذا كان هذا الكلام دقيقا أم أنه أخطر من جهل الجهلاء وعسف المتعسفين! أكاد أقول إنه ما من معطى من معطيات الحاضر يتيح أو يسوّغ أو يصحح قراءة الحاضر على الماضي والماضي على الحاضر، وكل النصوص المتوترة التي بين أيدينا وعيوننا وعلى شفاهنا، لا تصلح إلا لقراءة ماضوية من دون استدعاء أو استحضار. هنا، في هذا المنحنى تصبح الهجرة إلى كربلاء احتياطا للدم الحسيني من السفح والهدر والتبديد، على شرط العودة عنها لا الغياب فيها، إذن لنستقبل صباحات الأمس وقطر نداه وشمسه وأنجم ليله واستدارة بدره واستعداد طرفي هلاله للالتئام على نور وإنارة وجمال وبهاء... أما الشواذ من الذئاب السارحة والصلال اللابدة وبنات آوى والضباع والعقارب والبعوض من يزيد إلى كل يزيد في الماضي والبعيد والقريب، فهي لا تستأهل أن يصرف عليها قلامة من وقت أو جهد أو كلام أو عصب... فلماذا نسترجعها؟ كفانا استرجاعا لما لا يرجع! والاسترجاع إذا ما تحوّل إلى شأن يومي فإنه يعطل الحيوية ويفسد الحياة ويمنعها... فلماذا يتساوى يومانا؟ وكأن لا ليل ولا نهار ولا مترتبات ذهنية على مرور الزمان وتعاقب الأيام! إذن تضطرب حساباتنا وتصبح كثرتنا كغثاء السيل، أو أننا لسنا الآن غثاء، أو صائرين عما قريب إلى غثاء!

لقد سبقتني كل السلاحف وكل الزواحف، وأنا أسقط كسلي على كربلاء... أقتل الحسين حبا! وهل الحب لا يفترض الوعي شرطا؟ وحزن لا يغسلنا ويفتح عيوننا على مواقع أقدامنا هو حزن يقتلنا ويدفن الحسين فينا.

لولا دخول هذا الحزن في مكونات دمي وفي احتمالات إبداعي واستقامتي وطهارتي، لأعلنت فرحي بعاشوراء... وإني في آخر الدمعة، في آخر دمعة، أنشف عيني بابتسامة حيّة حيية خفرة مظهرة أو مضمرة، غامقة وعميقة، وآه الحزن الذي يحيا وآه الحزن الذي يموت، يشرئب أوارا من دون زيت، يموت ويميت!

على أني رغم كل ارتباكاتي لا أملك إلا أن أحزن، يأتيني الحزن من ورائي ومن أمامي ومن بين يدي ومن بين عيني ومن أذني ومن أصابعي المحروقة... ليحزن كل منا على طريقته... أنا أحزن لأن الآخر لا يعرف حقيقة ما، أعرفها، ويحرمني من معرفة حقيقة ما، يعرفها، إذن لا تكتمل معرفتي به ولا تكتمل معرفته بي، وهذا خسران مبين... والقاتل إنه يتراكم... ومتى... في عصر العولمة!!

وهل نعرف الحق إلا إذا تلاقينا من أجله وعلى طريقه؟ وهو وحده، معرفته تحررنا... لأن معرفة الحق فينا ولنا وبيننا كافية في تحريكنا نحو حقنا في الحرية، نحو حق كل منا في حريته بالآخر... والحق، الحق ليس ملكي ولا إرثي... عندي قرش من الحق أو قروش... وفي أرصدة الآخرين ورؤوسهم قروش... وقرش إلى قرش في حساب المعرفة، تجعل القرش ثروة رابية ونامية باستمرار. إنه القرش النوعي، لأنه المعنى، لأنه معنى في كربلاء، وفي كربلاء يتكثف ويتكاثف المعنى، تصبح كثافة المعنى نوعية، يصبح الحق نوعيا يخص النوع الإنساني كله، المتفق منه والمختلف، على نصاب الوحدة والتوحيد والهم الواحد والشوق الواحد والحلم الواحد والإيمان الواحد والمصير الواحد والإله الواحد الأحد الفرد الصمد... الذي نصمد إليه جميعا... شهودا وشهداء، ونلتقي في الوسط أي الحق ومنه نطل على كل الأطراف وكل الأعماق وكل المسافات... ونبحث للقلة عن معتصم بالكثرة ولكثرة عن غناء بالقلة... ونطابق بين الوطن والمواطن فيسكن الوطنُ المواطنَ ويسكن المواطنُ الوطنَ... ونلتقي في الوطن كما هو صورتنا في الآخر مختلفين... وإخوانا على سرر متقابلين

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 544 - الثلثاء 02 مارس 2004م الموافق 10 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً