هل تصطدم علمانية فرنسا بالزي الإسلامي والدين الإسلامي ؟!
قطعا هذا ليس بوارد ولم يحدث. فالاصطدام بالدين هو خروج من «العلمانية» إلى «الفلسفة الوضعية»، ولاتزال في فرنسا كنائسها إلى جانب مساجدنا، كما أن فرنسا لم تخرج عن الحرية الليبرالية التي تحمي جميع المعتقدات الإيمانية والإلحادية معا.
ما حدث أن فرنسا رفضت أن تكون في «أروقتها الرسمية» دورا للحكومة ومدارس عامة «زيا دينيا مميزا» يماثل «زي الراهبات» ويزيد عليه كالزي المسمى بالحجاب الإسلامي.
فالقاعدة مطبقة على زي الرهبنة المسيحية، تماما كالحجاب الإسلامي، الذي يتجاوز زي الرهبنة بتغطية الوجه واليدين أيضا، ولكنها لم تمنع أيا من الفريقين المترهبنين زيا من إسدال هذا الزي في المدارس الخاصة والشوارع وأماكن العبادة، فقط عليهن الابتعاد عن دوائر الدولة والعمل ضمن أروقتها.
هذا الوضع لم يعجب بعض المسلمين الذي رأى فيه تجنيا على «حرية المعتقد» الذي تحميه الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وتجنيا على «حقوق الإنسان» بالمنطق الغربي نفسه، فعمد للاحتجاج على فرنسا، بمبادئها هي.
كان هذا الاحتجاج الإسلامي ليكون محقا لو طرحت فرنسا «السفور» وإبداء زينة المرأة في الشوارع والأماكن العامة بديلا لما يطلق عليه «الحجاب الإسلامي». ففرنسا حين رفضت الحجاب لم تقل إن السفور، الذي يبيح عرض زينة الجسد، هوالقرار البديل للزي الإسلامي. ففرنسا ضد الحجاب، بالكيفية التي يمارسها بها المسلمون فحسب، ولا تطلب منهم ألا أن يحتشموا أو (يحتشمن) بذات الكيفية التي تحتشم بها الفرنسيات أنفسهن. فالقادمون إلى باريس يدركون تماما أن الفرنسيات لا يستقبلنهم بثياب البحر.
الفرق بين «الحجاب» و«الخمار»
الفرنسية تكشف عن «شعر رأسها» وأحيانا تغطيه تبعا للأحوال المناخية، وتكشف عن «جيدها» وعن يدها من «المرفق» أو «الكوع»، وعن ساقيها من «الركبة» إلى «القدم»، فهل طلب النص القرآني، وهو متداول بين يدي المسلمين، أكثر من ذلك ؟!
والفرنسية (تدني) عليها جلبابها ليعلم أنها (أنثى) وليست (ذكرا)، فهل طلب منها النص القرآني أن تخفي كونها امرأة؟ أم طلب منها أن تبدي (زينتها) فقط؟ (والزينة) في اللغة غير (الحلي) المصنوعة، ذهبا أو لؤلؤا أو حتى فضة، فالزينة هي (مفاتن) الجسد ومظاهر الجمال الأنثوي الجسدي، بل وما يفتن به الأغنياء من مظاهر الثراء، كقارون وزينته. والأمر لنا بأن نتخذ زينتنا عند كل مسجد، وطبعا ليس المطلوب الأساور والحلي، وإنما (جمالية المظهر)، فلا نأتي المساجد بثياب رثة ولحى شعثة وكثة، وأحذية متربة تفوح منها رائحة الثوم والبصل.
ونعود إلى نصوص القرآن ونطرحها ضمن عدة قواعد:
القاعدة الأولى، حفظ الفرج
«قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن» (النور: ج18).
والفروج هي ما بين الفخذين من أسفل البطن إلى الركبتين، والخطاب الإلهي موجه هنا إلى الجنسين: الذكر والأنثى، ولعلمي فإن معظم الفرنسيات حافظات ماعدا من يجعلن نهايات الثوب أعلى الركبتين (ميني جيب)، ولا تنص هذه الآية على ما هو دون الركبتين باتجاه الساقين.
القاعدة الثانية، حفظ الزينة
(الزينة) في اللغة غير (الحلي). فالحلي (تلبس) بالإضافة وهي من خارج الزينة «ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية»، (الرعد: 17)، وكذلك: «ومن كلٍّ تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها»، (فاطر: 12).
أما الزينة فهي مظاهر الجمال العضوي الجسدي: «ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها»، (النور: 31) والاستثناء فيما يظهر هو بحكم الضرورة التكوينية الجسدية، فمع غطاء النهدين يكشف التكوين عن قيامهما في جسد المرأة أصلا.
والزينة ما يبدو في مظاهر الثراء: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة»، (النحل: 8). ويتماثل ذلك مع موكب قارون: «فخرج على قومه في زينته»، (القصص: 79).
وطلب من الناس اتخاذ زينتهم في المساجد: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد»، (الأعراف: 31).
القاعدة الثالثة، الخمار والجيوب
قد وجه الله - سبحانه - المرأة لأن تضرب الخمار على الجيب، و(الخمار) هو ما يسدل على الجسد من الثياب، ثم حدد الله - سبحانه - مباضع ما يسدل عليه الخمار وهي (الجيوب).
والجيوب هي ما بين الثنيين: «وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء»، (النمل: 12)، وجيوب المرأة ما بين الثنيين أيضا، وهي ما بين النهدين، وما بين الصلبين، وما بين الإبطين. فالحد في الخمار ما بين الإبطين يتدلى إلى (المرفقين) في عضدي اليدين وما قبل الساعدين، ودرج الناس على تسميته بـ (الكوع) في اليد، وهو كعب اليد. فالخمار ليغطي ما بين الإبطين ينسدل من الكتف إلى المرفق، مع غطاء النهدين والصلبين ويتدنى إلى الركبتين لغطاء ما بين الفخذين.
بذلك تتم تغطية مباضع الزينة في المرأة، وليس هناك نص يشمل الجيد (الرقبة)، و(الشعر) لانهما ليسا من «الجيوب» وأسفل الركبتين من الساق وكذلك والممتد عن العضد من اليد.
ثم يضيف الله - سبحانه - إلى ذلك منع (التحايل) لإبداء الزينة، وذلك حين تتعمد المرأة المشية الخليعة بضرب رجلها على الأرض لتحدث اهتزازا لنهديها وصلبيها (الأرداف): «ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن»، (النور: 31). وليس صحيحا ما ذهب إليه البعض برنة الخلخال، فالخلخال من الحلي وليس من الزينة.
فإبداء الزينة يمتنع مع الخمار، كما أن ما ظهر منها بحكم ضرورات التكوين الجسدي مسدل عليه الثوب، ويستثنى من إبداء الزينة ضمن ضرورات الاحتشام داخل المنزل وفي إطار العائلة (المحارم): «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن»... إلخ الآية. (النور: 31).
القاعدة الرابعة، إدناء الجلباب على الجسد
ليتم التمييز بين الرجل والمرأة قضى الله بحكمته أن تدني النساء من جلابيبهن على أجسادهن ليعرفن، والإدناء هو القرب اللصيق: «ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)»، (النجم).
فإدناء الجلابيب توجيه رباني: «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما»، (الأحزاب: 59). والاذى ناتج عن الكشف على جلباب المرأة الفضفاض في حال الشك لتعرف أامرأة هي أم رجلا تخفّى بجلباب امرأة.
الخمار وحرمة العائلة
قضى الله - سبحانه - بهذه القواعد الأربع لتأمين «حرمة الجسد» الإنساني، بادئا بحفظ الفروج للمرأة كما للرجل، ثم خص المرأة بتشريع تفصيلي عن الزينة والخمار والجيوب وإدناء الجلابيب.
وقد قضى الله - سبحانه - بهذا التشريع صونا لحرمة الزواج والعائلة ودرء دواعي الزنا، فالزواج هو أول تشريع قضاه الله - سبحانه - وخاطب به آدم عليه الصلاة والسلام: «وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة»، (البقرة: 35). فإذا فشا الزنا وشاعت الفاحشة انهار البنيان العائلي برمته، لهذا كانت هذه الحدود القاطعة.
الخمار والاختلاط
قضى الله - سبحانه - بالقواعد المشار إليها وذلك كمدخل (للاختلاط) بين الجنسين، فالمرأة المسلمة لم تؤمر بالخمار، وهذه القواعد مع زوجها وإنما لإطلاق حريتها في (الاختلاط) خارج المنزل، بما في ذلك المدارس (الموحدة) من الروضة، الابتدائية إلى الجامعة وإلى أسفارها بمفردها حول العالم كله.
الخمار والحجاب
أضاف الناس بأعرافهم الاجتماعية وثقافتهم مفهوم (الحجاب) إلى (الخمار)، وأسدل بعضهم الثوب على المرأة من قمة شعر رأسها إلى أسفل قدميها، فتمّت تغطية الوجه (النقاب) والكفين (القفازات)، بل وأشاعوا (دونية المرأة) ومنعوا مصافحتها.
حين عمد هؤلاء إلى استخدام مفردة (حجاب) فإنهم لم يتوقفوا لدى الدلالة اللغوية الاصطلاحية لها، فالحجاب هو ما يحول دون الرؤية العينية أصلا لأي موضوع محتجب. فالله - سبحانه - لا يرى من وراء حجابه بالعين: «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب»، (الشورى: 51). ولذلك حين أراد موسى (ع) رؤية الله - سبحانه - عينا صرفه إلى الجبل: «قال ربِّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني»، (الأعراف: 143). وكذلك مريم (ع) وحين اتخذت الحجاب بعد أن (انتبذت) وبعدت عن الناس في خلوتها: «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)»، (مريم).
وكذلك أمر المسلمون بمخاطبة نساء النبي - رضوان الله عليهن - من خلف الباب: «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب»، (الأحزاب: 53).
فالحجاب هو ما يحول دون الرؤية العينية أصلا، كالحائط والباب فهو (عازل مانع)، أما الخمار فهو ثوب يسدل على الجسد المرئي بالعين. وله شروطه التي أوضحناها بالنص القرآني. فالحجاب المسدل على كل المرأة والذي نراه في حركة بعضهن اليوم هو نتاج الإرث الثقافي والتقاليد الاجتماعية، ولا علاقة له بالتشريع الإسلامي والآيات القرآنية، التي أوضحنا قواعدها. ويمكن للقارئ أن يرجع إلى مصادر الدراسات الاجتماعية والإنسانية عموما للتعرف على كيفية اتخاذ مختلف المجتمعات مفهومها للحجاب.
فرنسا والحجاب
إن معركة فرنسا هي مع (الحجاب العرفي) وقيمه الثقافية والاجتماعية، وليست مع (الخمار) الذي يحده الشرع الإسلامي وتبينه الآيات القرآنية. فالمعركة في فرنسا لا تهم الإسلام كدين، فهي معركة مع فهم (عرفي اجتماعي تاريخي) للتقاليد، وليست مع النص القرآني.
معقبات
أعلم أن هناك من سيأتي بأحاديث منسوبة إلى خاتم الرسل والنبيين (ص) تشرع لمفهوم (الحجاب)، ولهؤلاء أن يوفروا ردودهم، لأني على علم بها، وهي غير صحيحة، أنتجها العرف والثقافة الاجتماعية مستدلا في ذلك على مبدأ «عدم التناسخ بين القرآن والسنة النبوية»، وأن بيان السنة النبوية للقرآن هو بيان مقيد للنص القرآني، وليس خارجه، أو بمعزل عنه. فقبل أن يستدل أحدهم بمنسوب الأحاديث عليه أن يكاتبني بشأن نسخ السنة النبوية للقرآن أولا، ثم يدخل في قضايا (السند والمتن) و(الجرح والتعديل)، ثم يعيد بعد ذلك كله قراءة مقالي هذا.
ثم لمن يريد الرد على هذا المقال بمنطق (مترادف) المفردات و(مشتركها) و(مجازها)، إذ تختلط الزينة بالحلي، والفرج بالعورة، والسوءة بالعورة، والجلباب باللباس والثوب باللباس أن يكاتبني (ثانيا) بشأن نفيي القاطع أن يكون في لغة القرآن المحكمة مترادف ومشترك ومجاز، فالاستخدام الإلهي للغة العربية هو استخدام مصطلحي رياضي محدد الدلالة، خلافا للاستخدام البلاغي العربي.
ثم لمن يريد الرد على هذا المقال بوصفه (تماهيا) مع ثقافة العصر فعليه أن يدرك (ثالثا) أني وبالمستوى نفسه الذي لا أخضع فيه دلالات النص القرآني لثقافة المجتمع وأعرافه التقليدية والتاريخية، فإني لا أخضع النص القرآني للثقافة العالمية المعاصرة، التي تجنح لسفور المرأة والرجل معا.
ولله الحمد كيفما قام به الوجود وتقوّم
العدد 543 - الإثنين 01 مارس 2004م الموافق 09 محرم 1425هـ