يرتكب خطأ فادحا كل من يظن أن الرئيس الإيراني محمد خاتمي قد ارتكب «خطيئة» إجراء الانتخابات الأخيرة في الوقت الذي يعلم هو أكثر من غيره بنواقصها الأساسية. ويرتكب خطأ أفدح كل من طالب الرئيس الإيراني بالاستقالة منعا لما سمّاه ارتكاب «خطيئة» «تغطية» انتخابات غير مشروعة!
وحدهم العاجزون «القدريون» اليائسون من مقولة الإصلاح هم الذين يتخذون مثل هذه المواقف وخاتمي ليس منهم.
وهؤلاء أنفسهم هم الذين كانوا ضد ترشيح الرئيس محمد خاتمي أصلا سواء في الدورة الأولى أو للدورة الثانية من الرئاسة.
وهم أنفسهم الذين كانوا يطالبونه بإلحاح بأن يترك «حبلها على غاربها» وكفى الله المؤمنين شر القتال! ذلك لأنهم لم يكونوا ليصدِّقوا يوما بأن الشعوب قادرة على صناعة الحدث بنفسها ولكن في اللحظة التاريخية المناسبة! وليس عندما يقرر البطل الذي يصنعون! أي عكس الرئيس محمد خاتمي تماما الذي ما انفك يردد منذ صعوده إلى سدة الرئاسة بأن «عصر الأبطال قد ولى».
هذا بالنسبة إلى أنباء الداخل الإيراني لا سيما من أصحاب النوايا «الإصلاحية» ورافعي شعاراتها الحقيقيين. أما بالنسبة إلى أهل «الخارج» الإيرانيون منهم وغير الإيرانيين وسواء كانوا من أصحاب النوايا الحسنة أو من أصحاب غيرها! فإنهم يرتكبون خطأ مضاعفا أولا لجهلهم أو تجاهلهم لمقولة الإصلاح الخاتمية! وثانيا لجهلهم أو تجاهلهم طبيعة المجتمع الإيراني والآليات التي تصنع حوادثه ووقائعه التاريخية المهمة.
هؤلاء بدورهم أيضا كانوا مثل من سبقت الإشارة إليهم عاجزون عن مواكبة حركة تطور المجتمع كما هي لا كما يتصورونها أو يتمنون!
إن أي متابع محايد وجيد لحركة المجتمع الإيراني في الآونة الأخيرة يستطيع أن يستنتج بسهولة بأن الناس لم تكن ولا هي بصدد أن تكون في حال ثورة على الأوضاع. من دون أن يعني ذلك انها راضية عن تلك الأوضاع مطلقا.
كما أن كل الذين يعرفون الرئيس محمد خاتمي جيدا يعرفون تماما أنه لم يكن يؤمن يوما بـ «الثورة» أو بضرورة الإطاحة بالنظام السياسي الحاكم، ولا حتى بضرورة تفكيك «الجمهورية الإسلامية» وإعادة تنظيمها على أسس جديدة!
كل ما هنالك انه كان ولايزال يدعو إلى قراءة متجددة وعصرية للدين «تتصالح» مع ضرورات العصر، في حين أن غالبية منتقديه ان لم يكن كلهم - وليس مهما هنا إن كان ذلك يتم بوعي أو من دون وعي - عندما يأخذون عليه سياساته «المسالمة» أو «التصالحية» انما يدعونه في الواقع إلى «فك ارتباط» بين «الدين» وبين المقولات العصرية وفي مقدمتها «الديمقراطية». وهم على قسمين منهم من يقول بذلك دفاعا عن «نزاهة» الدين ومنهم من يقول بذلك دفاعا عن «نزاهة» الديمقراطية. وكلاهما يصطدم عمليا بدعوته تلك بصميم مقولة الرئيس خاتمي.
صحيح ان خاتمي يحترق الآن كالشمعة أمام ناظريه من أبناء الداخل والخارج لـ «فشله» الآتي أو «اللحظوي» بالمعنى الانتخابي وربما الجماهيري أيضا. فهو لم يكسب رهان صناديق الاقتراع - وهو كان يعرف ذلك سلفا - وأغضب جمهوره من غير المقترعين، كما لم يكسب ود المحافظين لا القدماء منهم ولا الجدد، لكنه بالمقابل منع بنجاح منقطع النظير ولو على المدى المتوسط وقوع صدام بين «الدين» و«الديمقراطية» بل انه نجح إلى أبعد من ذلك عندما استطاع بتضحياته و«احتراقه» أن يكرِّس في الأدب السياسي الإيراني مقولة تاريخية هي مقولة (مردم سالاري - ديني) أي السيادة الشعبية الدينية أو ببعض التسامح «الديمقراطية الدينية» وهي مقولة قاتل من أجلها الإيرانيون منذ أوائل القرن الماضي وثورة المشروطة الشهيرة.
بمعنى آخر، فقد استطاع خاتمي أن يعمم أدبياته هذه، بعد كفاح قرن ونيف للشعب الإيراني حتى على الخصوم التاريخيين لهذه الأدبيات والمقولات. ولم يعد بالإمكان «لخصومه» أو منافسيه أن يظهروا على الشعب إلا بلباس جديد وأدبيات جديدة ولغة جديدة وطروحات جديدة هي في الواقع لغة مطالبات الشارع الإيراني وحاجته التاريخية للجمع بين «الدين» و«الديمقراطية» بلباس إيراني.
وهذا يعني فيما يعني بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء من الآن فصاعدا. بل ان لا أحد بإمكانه أن يعيدها إلى الوراء أصلا.
هل هناك انتصار لمتنافس على صناديق الاقتراع أكبر من أن يخرج منافسون المنتصرين وهم يرفعون لواء شعاراته. بل وأن يقولوا للعالم بأن جل ما يطالبون به ويريدونه انما هو «تنظيم عقارب الساعة» وليس اعادتها إلى الوراء. وان هذا التنظيم انما يقوم على قاعدة شعارات المتنافس معهم. وهذه الحال التي نحن بصددها هي شعارات الإصلاح كما ورد على لسان زعيم تكتل ما بات يعرف بـ «المحافظين الجدد» الإصلاحي!
أعرف ان البعض قد يفهم ذلك «تسطيحا» للمعركة السياسية القائمة بين معسكري المحافظين والإصلاحيين وخصوصا أولئك المصرون على تسميتها بمعركة «كسر عظم» والذين لا يتوقعون للمعارك السياسية إلا أن يرمي أحد المتنافسين المتنافس الآخر في «مزبلة التاريخ»! حتى يتحقق النضال الديمقراطي! وهي قراءة «صقور» الجناحين بالمناسبة للنضال الديمقراطي وهي القراءة التي أثبتت فشلها والتي خسرت في صناديق الاقتراع والتي تتناقض أصلا مع مفهومي النضال الديني والنضال الديمقراطي معا وهي التي اصطدمت ولاتزال تصطدم بنهج الرئيس الديمقراطي والديني محمد خاتمي.
أعرف كذلك أن البعض الآخر قد يتهمني «بالتنظير» للمرحلة الجديدة وهم على قسمين: غلاة المحافظين الذين كتبوا بأنني أريد تنظيم عقارب ساعتي على الوضع الجديد الذي سيفرزه صندوق الاقتراع. وغلاة الإصلاحيين الذين اتهموني بـ «الانتهازية» والسعي إلى التأقلم مع السلطات الجديدة. لكنني أذكر الطرفين وهم شهود على ما أقول بأن قلمي هذا الذي اكتب به منذ ربع قرن ونيف لم يقبل يوما بالرضوخ لا لرقيب مخابرات دولة اليسار المتطرف ولا لرقيب مخابرات دولة اليمين المتطرف وتلك حكاية مطولة. لكن الأهم الآن برأيي هو أن يتعلم الجميع بعد كل الذي حصل كيفية النظر إلى الوقائع وتحليلها بعين «ابن البلد» أو ابن «الشارع» الإيراني نفسه وليس بعين «الرقيب» الذي فشلت جميع استطلاعات الرأي التي استند إليها وفوجئ في كل مرة بحقائق جديدة تفرضها عيون وأيدي جمهور الناس. حصل هذا في 11 فبراير/ شباط 1979م، كما حصل في 23 مايو/ أيار 1997 وهو مرشح لأن يحصل مستقبلا ولكن عندما يقرر الناس ذلك ويجتمع مزاجهم العام وليس مزاج النخبويين ممن فقدوا الجمهور وانقطعوا عن الجذور
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 540 - الجمعة 27 فبراير 2004م الموافق 06 محرم 1425هـ