بعد أن غرق قلب المشرق العربي في القتال والدم وصمت القبور، دبّت الحركة فجأةً في المغرب العربي، حيث تحرّكت الأحداث وعادت لتتصدر نشرات الأخبار.
كمتابعين يوميين للأخبار ومهتمين بالشأن العام، يشكّل تسخين الأحداث في المغرب العربي مفاجأةً غير متوقعة، فالوضع المتوتر تم احتواؤه مع الأسابيع الأولى من انطلاق حراك الربيع العربي مطلع 2011، فاتخذ الحكم خطوات لتبريد الأوضاع. وفوق ذلك كان الحكم قد فتح الباب للعمل الحزبي والانتخابات قبل سنوات، ما أسفر عن وصول الإسلاميين إلى موقع الحكم.
البلدان العربية التي واجهت الربيع العربي قبل سبعة أعوام، كلها كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، وباتت تواجه أزمة سياسية واقتصادية عميقة. إلا أن المغرب ترك المجال للمعارضة لتجربة الحكم، فوجدت نفسها في مواجهة المشاكل اليومية التي يكتوي بها الناس. وبعد آخر انتخابات قبل أشهر، عجز الإسلاميون (حزب العدالة والتنمية) عن تشكيل حكومة وفاقية جديدة منفتحة على بقية الأحزاب. وجاء الحل بإعفاء الملك عبدالإله بنيكران وتكليف زميله سعد الدين العثماني تشكيل الحكومة الجديدة في مارس/ آذار الماضي.
لم تكن مهمة العثماني سهلةً، في ظل تراكم المشاكل، ولم يمضِ أكثر من شهر حتى انفجر الوضع في منطقة الريف المغربي في الشمال. وإذا كان ذلك يشكّل مفاجأةً للمراقبين في الخارج، إلا أن المغاربة يقولون إنها لم تكن مفاجِئةً على الإطلاق، فالمشكلة لها جذورها التاريخية التي تغذّيها صعوبات الحياة الحالية، وليس هناك حركة احتجاج أو غضب جماهيري كما نشاهده اليوم في مدينة الحسيمة (56 ألف نسمة)، تنطلق فجأةً دون مقدمات، فالشعوب لا تثور أو تحتج لمجرد اللعب أو مشاغبة السلطة، وإنّما تتحرك إذا شارفت على حافة المنحدر.
تعود بداية التحركات إلى العام الماضي، وبطريقةٍ مأساويةٍ مشابهةٍ لما حدث في تونس نهاية 2010، حين أحرق الشاب البوعزيزي نفسه احتجاجاً على مصادرة العربة التي يبيع عليها الخضار. وقد بدأت حركة الاحتجاج في الريف المغربي العام الماضي، بعد مقتل بائع السمك الشاب محسن فكري، حين كان يحاول استعادة كمية من السمك الذي تمت مصادرته، من شاحنة النفايات فمات مطحوناً داخلها.
كانت الصورة هادئةً عندما بدأت تنتشر الأخبار الأولى عن الحركة الاحتجاجية قبل أسابيع، لكنها في الأيام الأخيرة أخذت تتصاعد بعد اعتقال الشاب مصطفى الزفزافي، الذي عُرف بقائد الحراك الشعبي، وأعقب ذلك اعتقال أربعين آخرين، ما أجّج الوضع أكثر.
الحركة الاحتجاجية أحرجت الإسلاميين الممسكين بالحكومة، فبقيت ملتزمةً الصمت لفترة طويلة، وقبل أن يطلق العثماني تصريحه الأول بشأن الأحداث كانت الحكومة قد أنزلت القوات العسكرية لمواجهة الموقف، مع إطلاق الاتهامات بحقّ المحتجين، من تعكير الأمن الوطني والإفساد والخيانة ومحاولة الانفصال!
المحتجون يركّزون على أن الاحتجاجات لم تأتِ عبثاً أو هواية، وإنّما نتيجة لما يعانونه في الريف من تهميش وبطالة وإهمال، بل إن أحد المتظاهرين قال إن «المنطقة لا تطلب سوى الحصول على الخبز بشكل يومي». وتصريحات الناشطين تؤكّد هذا المعنى إجمالاً، وهو ما ينشّط ذاكرة الرأي العام العربي بما كان يسمعه بداية انطلاق الربيع العربي من شعارات كبرى: حرية وكرامة وشغل واحترام حقوق الإنسان العربي المستباح.
هذه الشعارات الكبرى التي كانت تعبّر عن أماني وتطلعات الغالبية العظمى من الشعوب العربية، تم إجهاضها كما يعلم الجميع، بالخديعة والاستحمار، وبالحديد والنار. وجاءت تحركات الحسيمة الشعبية في أقصى شمال المغرب لتذكّرنا بفشل إلهاء الشعوب العربية بالحروب الطائفية والمذهبية الجانبية، وبوحدة آمال وتطلعات الشعوب.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 5384 - السبت 03 يونيو 2017م الموافق 08 رمضان 1438هـ