«هناك بعض الناس لا يعتبرون غيرهم بشراً، وينظرون إليهم على أنّهم أشياء، فيفعلون بهم أيّ شيء». هذا ما قالته المغنية الأميركية من أصول أرمنيّة «شير»، بعد أن شاهدت فيلم «الوعد- THE PROMISE» الذي يتناول قصّة إبادة الأرمن التي ابتدأت في 24 إبريل/ نيسان1915 في غمرة أحداث الحرب العالميّة الأولى (1914-1919) والتي شهدت بدايات إنهيار الإمبراطورية العثمانيّة.
الفيلم يتحدّث عن طالب أرمني يُدعى مايكل بوغوصيان (أوسكار إيزاك-الأميركي من أصل غواتيمالي) الذي كان يحلم بتطوير النظام الطبي في بلدته، حيث يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون منذ مئات السنين، والتي تقع جنوب تركيا.
حين يبدأ بوغوصيان مشواره الدراسي في مدينة القسطنطينية (اسطنبول) ذات التنوّع والتعدديّة الثقافيّة والإثنيّة، يلتقي بالفاتنة الأرمنيّة «أنّا» (الممثّلة الفرنسيّة شارلوت لو بون) فيقع في غرامها على رغم علاقتها مع الصحافي والمصوّر الأميركي «كريس مايرز» (كريستيان بيل-الممثّل البريطاني) الذي يحتفظ بدفترٍ يكتب فيه يوميّات عن أعمال الإبادة الجماعيّة ويتمّ العثور عليه ويُعتقل، ولولا وصول خبر اعتقاله إلى السفارة الأميركيّة لكان مصيره في خبر كان مثل غيره من مئات الألوف الذين ذهبوا ضحايا بدمٍ بارد، حيث تدخّلت السفارة الأميركيّة لإنقاذه ومن ثم ترحيله.
الحدث الدرامي والمأساوي هو ما يميّز الفيلم الذي أضفى مخرجه الإيرلندي تيري جورج لمساته الفنّية عليه، وخصوصاً أنه قد عمل سابقاً على موضوع الإبادة في فيلمه المرشح لجائزة الأوسكار «أوتيل رواندا». وبلغت تكاليف إنتاج فيلم «الوعد» 100 مليون دولار، قام بالتبرّع بها رجل الأعمال الأرمني الراحل «كيرك كيركوريان» الذي نجت عائلته من المذبحة التي ارتكبت حينها.
الفيلم يعيدنا إلى الموقف من المجاميع الثقافية الأخرى، الإثنيّة والدينيّة والسلاليّة واللّغويّة، حيث تندلع أعمال إبادة وحشيّة اليوم بحق الشعب الفلسطيني الذي تستمر معاناته منذ نحو 7 عقود من الزمان. ونستحضر معه المآسي التي حصلت للإيزيديين على يد «داعش» بعد احتلاله الموصل، وخصوصاً قتل شبابهم وسبي نسائهم، وقبل ذلك ما حصل للصابئة المندائيين في العراق من أعمال استهداف وعنف حيث اضطرّ الآلاف منهم إلى الهجرة، مثلما تعرّض المسيحيون لا سيّما في العراق وسورية إلى مأساة حقيقيّة بسبب أعمال التعصّب والعنف والإرهاب.
المأساة التي حصلت للشعب الأرمني لم يتمّ الاعتذار عنها، علماً بأنّ الرواية التاريخيّة التي حاول الفيلم أن يضيء عليها تقول أن نحو مليون ونصف المليون من أبنائه قتلوا غدراً. وإذا كان التاريخ مراوغاً بحسب «هيغل» فحسبنا اليوم بالوقائع الدامغة التي تستوجب عمل كلّ ما من شأنه حماية البشر، ووضع حدّ للمآسي الإنسانية بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي، فالبشر، كل البشر، لهم الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف.
إنّ أبسط ما يمكن تقديمه للضحايا في الماضي والحاضر هو تحريك ضمير المجتمع الدولي للاعتراف بما حصل والاعتذار عنه وكشف الحقيقة كاملةً وتعويض الضحايا وجبر الضرر والعمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية لكي لا يتكرر ما حصل ولكي لا يفلت الجناة من العقاب. وذلك ما يندرج في إطار العدالة الانتقاليّة على المستوى الدولي والوطني.
وإذا كان فيلم «الوعد- THE PROMISE» يعكس مأساة الشعب الأرمني الحقيقية التاريخيّة، فإنّ ما يجري على أرض الواقع يتطلّب عملاً جاداً ومسئولاً وعلى جميع الجبهات؛ الفكريّة والثقافيّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة والقانونيّة والدبلوماسيّة، لاستئصال التعصّب والتطرّف والإرهاب وإشاعة ثقافة التسامح والسلام والتآخي نقيضاٍ للثقافة السائدة التي تقوم على الكراهية والعنف والانتقام.
ملاحظة أخيرة لا بدّ من الإشارة إليها بخصوص الفيلم وهي أنّه، على رغم محاولته تصوير بشاعة الجريمة، إلا أنّه لا يخلو من تمرير دعاية موجّهة، مثل «مدنيّة وتحضّر» الأميركيّين والفرنسيّين والغرب عموماً ودفاعهم عن حقوق الإنسان، كما يُدَسّ فيه اسم «اليهود»، لدرجة أنّ أحد المسئولين الأتراك يخاطب أحد موظّفي السفارة الأميركيّة في أنقرة بقوله «أنت تدافع عن الأرمن لأنّك يهودي»، مُظهراً تعاطفاً زائفاً في حين أن العرب في حلب والموصل وبيروت وعمان والقاهرة وغيرها من المدن العربيّة هم من استقبل الأرمن ووفّروا لهم الأمن والحماية، دون أن ننسى أنّ عدداً من العوائل التركية ساهم في إنقاذ عوائل وأفراد من جيرانهم ومعارفهم الأرمن بتأمين مخابئ لهم، كما قاموا بتربية بعض الأطفال الذين فقدوا ذويهم خلال أعمال الإبادة.
ومثلما ترتفع اليوم المطالبات بالاعتذار للأرمن، فإنها تشمل اعتذار الفرنسيين عن احتلالهم الجزائر وما ارتكبوه من أعمال بربريّة، واعتذار الأميركان لسكان البلاد الأصليين على ما قاموا به من إبادة بحقّهم، واعتذار البريطانيين عن وعد بلفور الذي ألحق أفدح الأضرار بالشعب العربي الفلسطيني. وبغضّ النظر عن كل شيء فإنّ الفيلم هو لائحة اتّهام، بل وثيقة إدانة لأنّه يُظهر المأساة الحقيقيّة لشعب تعرّض للإبادة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5383 - الجمعة 02 يونيو 2017م الموافق 07 رمضان 1438هـ