هاتفني موظف حكومي قبل فترة، وعرض علَيَّ قصة فساد تجري في الوزارة التي يعمل بها، أنه يشم رائحة الفساد في دائرته، ويرى كيف يتحرك حيتان الفساد براحة واطمئنان بينما هو لا يدري لمن يذهب؟ ومن هي الجهة المختصة للتبليغ عنه؟ وما مدى جديتها في وقف أو منع استشراء الفساد؟ ويبدو أن هذا المواطن الحريص على وطنه لم يسمع يوماً بالخط الساخن الحكومي نزاهة أو بالجمعية البحرينية للشفافية أو غيرها، ولم يجد أمامه إلا الصحافة الالكترونية التي من خلالها استطاع أن يطلق صفارته الأولى، عسى أن يلتفت صناع القرار، أما القائمون على الصحافة الورقية فليسوا في وارد الدخول في معارك الفساد الكبرى، وتحمل تبعاته خصوصاً في ظل خشية المصادر من إفشاء أسمائها وضياع مستقبلها المهني، في الدول الغربية والتي تتمتع بديمقراطية فاعلة، وجدوا حلاً لهذه الإشكالية ، فإذا وجد الموظف فساداً متخفياً، قام بالتصفير وهو إجراء احترازي أو استباقي يقوم به هؤلاء المصفرون للتنبيه للخطر وقبل وقوع الفأس في الرأس.
والمصفرون whistle blowers قد يكونون فرداً أو جماعة تعمل في المؤسسات والشركات العامة أو الخاصة، وتقوم بفضح وإفشاء الممارسات والأخطاء والانتهاكات غير القانونية وغير المشروعة والخارجة عن الإطار الطبيعي والأخلاقي، مثل هؤلاء قد يجدون أنفسهم فجأة وبالمصادفة أمام فساد شاهر ظاهر يتحرك مرتاحاً مطمئناً بلا روادع ولا كوابح ولا خوف أو خشية من مساءلة أو افتضاح، ربما لأنه يستند إلى ظهر قوي يحميه، أو قد يشم «المصفرون» رائحة فساد إلا أنه فساد مقنع ومتوارٍ في حين تبدو واجهة المكان أو المؤسسة براقة ومشعة ومربحة، بينما هي في الداخل وفي العمق منخورة بالفساد وبالتقارير المالية المفبركة والمخادعة، في الحالة الأولى وحيث يسطع الفساد كل يوم كأشعة الشمس الواضحة، يعمد مطلقو الصفارة للعمل بشكل أسرع، أمّا في الفساد المتواري الخبيث فالعمل يقتضي روية وبحثاً وتخفياً ولا يتم تسريب المعلومة قبل التحقق منها تماماً ومن ثم البدء بالإبلاغ والتحقيق.
مطلقو صفارة الإنذار لا يتعلق عملهم بملاحقة الفساد وحده؛ إنما بكل خلل إداري أو قضائي أو أمني أو صحي أو بيئي أو إعلامي، ويقومون بهذا العمل مدفوعين بالحرص على المصلحة العامة أو الخاصة التي قد تتعرض للخطر والتي قد تشكل في حال السكوت عنها نكبة بالمجتمع والدولة بأكملها، وتبدأ هذه المجموعة بملاحظة خيوط الفساد الذي يعمل خفية وفي الظلام وبعيداً عن الأعين، مطلقو صفارات الفساد شاهدناهم في عدد من أفلام شهيرة حملت الاسم ذاته blowers whistle ، وأغلبها أفلام مستوحاة من قصص واقعية لأفراد عاديين وشاءت الصدف أن يكتشفوا الأخطاء والتجاوزات والسرقات، وكثيراً ما نجد في هذه القصص كيف يبدأ الفساد، فإن كان الطريق آمناً وسالكاً والآليات غائبة أو شكلية والناس تخاف من التبليغ أو الإفشاء تعاضد الفاسدون بشكل محكم في جميع مرافق هذه المؤسسة أو تلك، وتشارك الجميع في إعداد حساء الفساد كي ينال كل فرد حصته من الغنيمة، وفي البداية يعمل المصفرون بسرّية شديدة؛ ولكن في حال اكتشاف أمرهم أو وصولهم إلى يوم إعلان النتائج فإنهم يكونون طوال هذا الوقت في حماية عدد من الجهات أهمها:
الهيئات المستقلة في مكافحة الفساد، وقانون حق الحصول على المعلومة، والصحافة الحرة النزيهة الاستقصائية تحديداً، والأحزاب السياسية والقضاء العادل والبرلمانات القوية ونشطاء المجتمع المدني والمحامون والقوانين الواضحة الصريحة المعنية بالكشف عن الفساد وبحماية الشهود والمصادر الخبرية إضافة إلى الرأي العام المهيأ لمحاربة الفساد، والأهم من كل ذلك هو المساندة الحقيقية التي يلقونها من أنظمة حكم تتعامل بصرامة شديدة مع الفساد خشية على اقتصاد الدولة وتصنيفها وسمعتها واستثماراتها وحاضرها ومستقبلها.
كل هذه الأمور تشكل طوق حماية وأمان للمبلغين عن الفساد، والذين قد يتعرضون للاستهداف أو الانتقام أو التصفية أو الطرد من أعمالهم أو قد تلاحقهم الشبهات إذا لم يقم النظام والمجتمع وقوانينه ومؤسساته بتأمين الحماية لهم كما سبق وأشرت، في الغرب صدرت الكثير من الكتب والأفلام وحتى الأغاني التي تحكي عن صفارات الفساد «أيها المصفر انفخ صفارتك» وتمجّد فعلهم، وتعتبرهم ضمير المجتمع وروحه الأخلاقية وعناصره الجديرة بالاقتداء والتي تستحق الجوائز والتكريم والأوسمة، وفي السنوات الأخيرة جرى استحداث الكثير من الآليات والقوانين «للمصفرين» كي تكون متوافرة وجاهزة ويستعان بها في منظومة مكافحة الفساد، في ظل تنامي ظاهرة الفساد وتعقدها وتشابكها وارتباطها بمصالح أهل السياسة.
إن العالم الثالث لا يزال فقيراً في تعاطيه مع المعلومة ومع الفساد، إضافة إلى نقص وغياب الحماية التي قد يتلقاها المصفرون، وبسبب انعدام الحريات والديمقراطية والصحافة الحرة تسمع همساً أو ربما صفيراً خافتاً أو مدوياً في كل مكان، ولكن لا تجد ردّة فعل أو استجابة لهذا الصفير.
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 5381 - الأربعاء 31 مايو 2017م الموافق 05 رمضان 1438هـ
تربط فى رقبتي حجر وترميني وسط النهر وتقول لي عوم .. ويلاه .. وكيف أعوم؟ .. هذا هو حال الأنسان فى العالم الثالث .. فأسنانه مكسورة وأصابعه مهشمة .. وقلبه معصور .. وخاطره مكسور .. فبأي وجه نطلب منه أن يصفر همسا أو يصفر صفيرا خافتا أو مدويا؟؟ ..
إن اشتممت أية رائحة فساد ، فاتصلي على ذلك الرقم المخطوط في اللافتات على أمتداد الشوارع ....
ما عندنا فساد