أولى الباحثون في العلوم الاجتماعية والإنسانية بتنوعاتها اهتماماً بالغاً بدراسة ارتباط الايديولوجيا الوثيق بالسلطة والقوة وعلاقتهما بالوسائل الإعلامية، التي غدت في الزمن الحاضر كالأخطبوط متحكمة في العالم من خلال أذرع ممتدة ومتغلغلة تبسط نفوذها في عمق المجتمعات، وتنتهك المجال العام محددة مساراته بما تخلقه وتؤسسه من وعي مزيف باعتماد أساليب التضليل والخداع، التي شاعت على نطاق واسع، وباتت تأخذ أبعاداً بعضها ذات نزاعات هستيرية تصادمية استخفافية يفتقد لكل معايير القيم والأخلاق بما يتركه من بصمات وآثار سيئة وخطيرة على الفرد والجماعات، وعلى كل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في البناء الاجتماعي.
في عملية الزيف والتضليل الإعلامي يتم استغلال الأفكار والقيم والمفاهيم الناعمة للتستر على مصالح قوى الاستبداد المهيمنة على النظام السياسي والاجتماعي، فهي تبرر الواقع وتزينه بما يضفي عليه من طابع شرعي مقبول. في هذا الصدد يشير الكاتب الفرنسي دستوت دي تريسي الذي درس علم الأفكار في أواخر القرن الثامن عشر، إلى أن «الفئات المتنفذة تستطيع السيطرة على الأفكار السائدة التي يتداولها المجتمع ويستطيعون بالتالي استخدامها لتبرير أوضاعها ومواقفها»، الأمر الذي يؤدي كما شهدنا في الكثير من المجتمعات العربية والإنسانية إلى مزيد من الحروب والصراعات، التي أدت إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، وتجزئته وبث الأحقاد والكراهية، وتعزيز عزلة الأفراد والجماعات على أسس دينية وطائفية وإثنية.
التضليل والكراهية
الحالة هنا لا تقتصر على التضليل والاستخفاف بعامة الناس في لي جوهر الحقائق وبتر المعلومة عنها، أو عدم تغطيتها إعلامياً أو التحيز ضدها وتحريفها، إنما إضافة إلى ما سبق يصل الأمر إلى حالة إلغاء الآخر الذي لا يشبهنا ولا يردد ما نردده كالببغاوات، وأسهل وسائل هذا الإلغاء الذي تمارسه وسائل الإعلام التدميرية المتنفذة وأسوأها، تتمثل في تسقيط الآخر وتحقيره وتخوينه وبث الكراهية ضده، وكيل الاتهامات والنبش في كل الموبقات الطائفية والمذهبية والإثنية لتكون مادةً حية وحاضرة تساهم في إشعال الاحترابات وتفتيت المجتمعات، إنها حالة مزرية تثير القلق والخوف والاشمئزاز لما وصلت إليه عمليات الردح الإعلامي في مجتمعاتنا العربية، وبما تخلفه من تقويض للعلاقات الإنسانية بين الجماعات المتعددة التنوع والاختلاف في المجتمع الواحد، وعلى رغم أن عملية التضليل غير ميكانيكية إلا أنها عملية معقدة ومخططة تؤثر فيها شبكة من العوامل السياسية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة.
الأمر بالطبع يقود إلى قراءة ملفات التاريخ التي تناولت النظريات الإعلامية، ومنذ أن كان الإعلام يمارس تأثيراً ذات سلطة مطلقة على اتجاهات الرأي العام في المجتمع، وأكثرها بروزاً وتجلياً هنا «نظرية «غوبلز» نسبة إلى صاحبها جوزيف غوبلز؛ وزير الدعاية والإعلام في فترة حكم أدولف هتلر النازي. استندت نظرية «غوبلز» في سيطرتها على العقول وتوجيهها إلى أهداف محددة على نظرية «التأطير» التي تشير إليها الدراسات «بما تتضمنه من وضع الحوادث والأشخاص في إطار معين بحيث تجعل المتلقيّ يحكم على القضية؛ تبعاً لما هو متوافر أمامه من معلومات بشأنها، والمعلومات التي تصله بالتالي؛ تقوده لاتخاذ أحكام؛ وفق ما تضعه نظرية التأطير، وأجندة المعلومات المرسلة»؛ كأن تقول إن شعب هذه القرية أو تلك مساكين ويريدون العيش بسلام، والمفروض الإجهاز على بعض منهم كي نوفر للبقية بيئة الأمن والسلام والمحبة، وعليه يصبح القتل مشروعاً ومبرراً من الناحية الإنسانية.
الكذبة أداة
تشير الوثائق إلى أن جوزيف غلوبز كان أشهر رائد للحرب الإعلامية التي ألهمت شعباً ومحوراً بأكمله، حيث رسخ مفهوم «البروباغندا السياسية» وكان أقوى المؤثرين من أصحاب نظرية «غسيل الأدمغة»، فقد لعب دوراً خطيراً وبذكاء شديد في ترويج الفكر العنصري النازي، متبعاً آلة دعائية تعتمد على تصوير هتلر كمنقذ للشعب الألماني، كما كان له دور دموي قذر في محاكم التفتيش التي راح ضحيتها الآلاف، الأسوأ في الأمر أن نظريته تمثل إحدى الأدوات المهمة في الحرب النفسية بما تعتمد عليه من كذب ممنهج في مناهضة خصوم النازية، فهو أبرز من قام بتطوير فن صناعة الكذب والتضليل الإعلامي، وتزيين الحقائق معتمداً على تكرار المقولات التي اشتهر بها «أعطني إعلاماً كاذباً أعطيك شعباً بلا وعي»، «اكذب، اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس...»، «بالغ في كذبك... فكلما كبرت الكذبة كلما سهل تصديقها».
وقد غدت نظريته حتى يومنا هذا من أكثر النظريات ممارسة من بعض وسائل الإعلام التي ترصد لمؤسساته موازنات ضخمة تفوق موازنات بعض الدول، وعليه باتت هذه المؤسسات أكثر قوة وحضوراً وانتشاراً بما تمارسه من ضجيج إعلامي متقن وممنهج، وخصوصاً مع منتجات الثورة المعلوماتية والاتصالاتية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تساعدها في إعادة تشكيل وعي الشعوب كي تحكم على ما يحدث بناءً على التوجيهات المرسومة بدقة وبحسب الألاعيب الإعلامية التي تصور الأمور بشكل يصب لمصالح المؤسسة الرسمية وما تريده.
توماس عدو الشعب
في هذا الشأن تسوغ بعض الكتابات الكيفية التي تشتغل عليها نظرية «غلوبز» في صورها ومضامينها الواقعية والرمزية، فتشير إلى نص مسرحية «عدو الشعب» للكاتب النرويجي هنريك ابسن ومضمونها أن «ثمة طبيباً يدعي توماس ستوكمان يشغل منصب طبيب ومفتش صحي في حمامات المدينة للمياه المعدنية في جنوب النرويج، وهي تمثل مقصداً للاستشفاء السياحي الذي ينعش المدينة مادياً واقتصادياً. وقد اكتشف توماس أن مياه هذه الحمامات ملوثة وهي وراء أمراض التيفوئيد بسبب تلوثها من مدبغة جلود تلقي بقاذورتها في الحمامات. حاول لفت أنظار الناس والحكومة لهذه الظاهرة الخطيرة، لكنه اصطدم بمن لهم مصالح ومنافع، ووقع فريسة لحملاتهم المضادة وحتى من قبل أخيه العمدة، فأصبح محارباً ومنبوذاً بسبب تأليب الناس عليه، حيث تخلى عنه الجميع واتهموه بأنه «عدو الشعب» وفرض عليه وعلى أسرته حصار كما منع من فتح عيادته والتخلي عن داره وعن الكتابة في الصحيفة، لكنه أصر على موقفه ولم يتنازل.
خلاصة الحكاية تكشف نموذجاً فاقعاً لحالة التزييف والتضليل التي مورست على الطبيب استناداً إلى الأساليب والطرق الغوبلزية، وهي الأساليب ذاتها التي يتذاكى بعض الإعلاميين والكتبة في ممارستها من دون مهنية وباستخفاف مقصود وبلا وازع ضمير أو قيم أخلاقية، رغبة منهم في إخضاع الجميع وتوجيههم كما ينبغي وبحسب المعتمد في أجندات المؤسسة السياسية، ولهذا لا ضير من استحضارهم لمقولة: «اكذب... اكذب...» حتى تصدق نفسك، لكن حتماً للناس عقول تميز بين الغث والسمين.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5380 - الثلثاء 30 مايو 2017م الموافق 04 رمضان 1438هـ
تحية لك سيدة منى
دؤبت العلوم الاجتماعية و السيكولوجية على دراسة مواطن القوى و الضعف للمجتمعات و الافراد وبذلك إعادة تأهيله في حالة النشوز
اما في هذا الزمان الرديء فقد عمد الاعلام الساقط الى خلخلت المجتمع و افراغه من مبادئه السامية و الراقية و زرع مفاهيم مغلوطة و مدمرة و النتيجة شذوذ و حياد عن السلوك السليم لمؤارب تجارية و عسكرية تخريبية في الغالب
التضليل الاعلامي عن طريق الكذب هو البوابة المضمونة لدى الامم الجاهلة المستغباة و التي تسقط فريسة سهلة لكل انواع و ابشع الاستغلال
د. حسن الصددي
ونعم الكلام أختي العزيزة