على مدى 20 عاماً كانت وزارة الخارجية الأميركية (في عهد الجمهوريين والديمقراطيين بالسواء) تقيم حفلاً رسمياً بمناسبة شهر رمضان المبارك. هذا العام رَفَضَ وزير الخارجية ريكس تيلرسون هذا الطلب الذي تقدَّم به مكتب الأديان والشئون العالمية بوزارة الخارجية الأميركية على عادته منذ شهر أبريل/ نيسان الماضي. وبالعادة يكون جوهر الحفل «عبارة عن مأدبة إفطار أثناء شهر رمضان أو حفل استقبال بمناسبة عطلة عيد الفطر» هذا بالتحديد ما جاء في الوصف الخبري.
تقول وكالة «رويترز» للأنباء إنها سألت متحدثة باسم وزارة الخارجية كي تُعقِّب على رفض تيلرسون للطلب فقالت: «مازلنا نستكشف الخيارات المحتملة للاحتفال بعيد الفطر في نهاية شهر رمضان». وربما يعيد هذا الموقف الأقوال التي تتحدث عن أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب «تتخذ موقفاً غير ودي تجاه الإسلام» بعد أن سعت لحظر دخول مواطني سبع «دول ذات غالبية مسلمة إلى الولايات المتحدة» الأميركية مع بداية توالي ترامب للمسئولية كرئيس في البيت الأبيض.
بالتأكيد هذا ليس كل شيء. فحفلة سنوية هي في نهاية الأمر نوع من الترميز. ولو لم تكن المسألة متعلقة بإدارة ترامب لما احتاج المرء لأن يُشكِّك أكثر مما يجب. لكن الإدارة الحالية وتحديداً بعد مساعيها لقرار الحظر وتصريحات ترامب الغريبة عن الإسلام والمسلمين لا تبعث اطمئناناً للمسلمين الأميركيين. وهي تشجِّع بذلك أصحاب النزعات المتطرفة داخل الولايات المتحدة كي يفعلوا ما يشفي غليل قناعاتهم الشوفينية، وتمنحهم الغطاء كي يمارسوا تلك القناعات.
هذا ليس تجنياً على السيد ترامب وإدارته. دعونا نستحضر ما كَتَبَه والاس ويلز في مجلة الـ «نيويوركر» قبل أشهر. لقد ذكر أنه وبعد أن أطلق ترامب دعوته ووقّع أمره التنفيذي بشأن حظر دخول مواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة سُجِّلت أعمال قام بها موظفو دوريات الحدود والهجرة الأميركيين (الذين ما برح ترامب وهو يُمجّد فيهم) حين منعوا في المطارات الأميركية العائلات والمحامين؛ بل وأعضاء كونغرسيين من أن يُقابلوا أشخصاً تم احتجازهم بموجب قرار ترامب في الحظر.
ويضيف ويلز أنه وعند الحدود في ولاية فيرمونت أعيدت مواطنة كندية كانت قد أتت للبضُّع والسبب أن أحد موظفي الحدود صادر هاتفها المحمول بعد أن وجد فيه أدعية باللغة العربية، بل إن مسافرة قادمة تم استجوابها بشكل غريب حين سُئِلَت عن مشاعرها الخاصة تجاه الرئيس دونالد ترامب، وكأنه تحقيق في النوايا والمشاعر الشخصية، يُذكِّر بسلوك الأنظمة الشمولية.
لقد تواصلت مثل هذه الأعمال بفعل حملة التحريض من أعلى سلطة في الدولة حتى بعد أن قام قضاة فيدراليون بمنع تطبيق أمر ترامب التنفيذي الخاص بحظر السفر. ويذكر ويلز في مقاله أن محامياً مختصاً بمسائل الهجرة في أطلنطا، ذكر أن مراقبي الهجرة والجمارك الأميركيين كانوا يطرقون الأبواب في حي ذي غالبية إسبانية كي يتحققوا من وثائقهم الثبوتية.
ثم وفي ولاية فيرجينيا، فإن المسئولين ذاتهم ذهبوا في باكر أحد الأيام إلى أحد مقرات إيواء الفقراء من البرد الذي تديره إحدى الكنائس، وقاموا بإيقاف الرجال الذين ترجع أصولهم إلى اللاتين واضعين وجوههم نحو الحائط ليأخذوا بصمات أكفهم وكأنهم جناة حقيقيون لا فقراء حلّ بهم اليأس، والأدهى أن بعض رجال الشرطة استخدم الحبر الأبيض في سياتل كي يُغيّروا بيانات أحد المهاجريين الشرعيين والذي أنكر خلالها أن يكون منتسباً لعصابة إجرامية، وبالتالي فهم يُظهرونه وكأنه يعترف بانتسابه لها، هذا ما ذكره ويلز وليس أنا.
هذه هي المشكلة. فالخشية ليست من إلغاء حفل بروتوكولي، وإنما من الدوافع الحقيقية لمثل تلك التوجهات. إنها نزعة باتت تخيف ثلاثة ملايين مسلم يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية. خيشتهم هي من إدخالهم في صراع وخلافات قد تؤثر على السلم الاجتماعي الأميركي، وتُغذي في صفوفهم قضايا التطرف، وتحديداً ما يُسمّى بالذئاب المنفردة والذي أشرنا إليه في وقت سابق.
نعم، تصدّى الغيورون هناك من الأميركيين البِيض والسّود بالسواء لمثل تلك القرارات والمضايقات، لكن لا يمكن لأحد أن يُغيّر قناعة هذه الإدارة التي سعت وجيّشت كي تُطبق مثل تلك السياسات وهو الأمر الخطير في المسألة. فحين لا تستطيع الإدارة الحالية ورئيسها الاعتراف بالحاضر لا بالماضي الذي سجَّل للمسلمين حضورهم القوي في بناء أميركا، فضلاً عن الأجيال الحالية فهذا يعني أنها لا تعي ما تقول وما تفعل.
كيف يُمكن أن يُلغى ذكر ما بين 6 و12 مليوناً كانوا مسلمين في عموم القارتين خلال ثلاثة قرون من عصر الاسترقاق، وكيف يُلغَى الجدّ الخامس «المسلم» للرئيس الأميركي الأسبق وارين هاردنج (1865 - 1923)، وكيف تُنسى دماء المسلمين الأميركيين في حروب أميركا من أجل الاستقلال (1775م - 1783م) وفي معركة بانكر هيل خلال حصار بوسطن وهو ما أشرنا إليه سلفاً أيضاً.
هذا ضربٌ في الهوية لمجتمع قائم أصلاً على التعدد وضرورة الاندماج فهو قدره الأوحد. وخلاف ذلك يعني تشويهاً معنوياً ومادياً لأميركا التي يحكمها الموزاييك وليس الوحدة الصّماء.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5378 - الأحد 28 مايو 2017م الموافق 02 رمضان 1438هـ