تزداد فكرة الحرية رسوخاً لدى البشر وتتعجب كلما تأملت إصرارهم العميق على التلذذ برحيقها المعتق، هم فقط لم يدركوا بعد جانبها المشاكس وثوبها الآخر، الأقل رهافة وحماساً، والأكثر مسئولية واجتهاداً. أكتب عنها كل ليلة بخشوع كبير كمعتوه من غرفتي الموحشة المنطفئة، وأرسل مسوّدة ما كتبته إلى الصحيفة التي أعمل بها، علّها تصل إلى عقول الغافلين في صباح يوم الغد. أفعل هذا كل ليلة وأكرره منذ مدة ليست بالهينة، أكرر نفس الوضعيات، نفس الطقوس، نفس اللغة، نفس الاحتفال في آخر الشهر، ونفس الجملة قبيل الفجر: الغد أفضل.
اليوم وأنا أحاول أن أكتب، رشفت من فنجان قهوتي رشفة لذيذة، ثم وضعت الفنجان أمامي على الطاولة ورحت ألتقط الأفكار تسلسلياً وأبحث عنها في أرجاء عقلي. حدثتني عن البدء بالفرق بين الحرية والتحرر، لكن تفاجأت بفكرة ظننتها عبقرية قد خاطرت لي وهي حرية الحب. هل أكتب عن هذا؟ ما الذي سأكتبه؟ هل نحن أحرار في حبنا؟ ألسنا كذلك؟ ترددت. شيء ما داخلي أخمد الفكرة، ولم يكن غير واقعة قديمة، قديمة جداً.
أرخيت ظهري على مسند الكرسي لأستمر في التقاط أفكار يسمح لي بالكتابة عنها. شبكت أصابع يدي، دارت عيني في جولة قصيرة على سطح الغرفة؛ نتوءات وتشققات كثيرة، لكن لا اجتياح جديد يعتصر دماغي فأترجمه على الورق، ورق الحرية.
كان اليوم خاصاً حتى اللحظة، نعم، إذ لم يعمر ذهني بشيء، فأقام الحداد على التفكير بعد ولوج تلك الواقعة إلى دهاليزه، تسمّرت في مكاني وأقسمت على حل المعضلة. لم يكن ممكنا أن يخونني ذهني فاخترقته بترحاب، وبدأت أسير في طرقه متهتكاً، لا أخاف من شيء، لا أخاف أن أبقى وحيداً مع هذه الذكريات المسجلة بعناية، أحاول أن أقنع نفسي بأن أحول فشلي اليوم إلى نجاح باهر، لكن فجأة ظهر ذاك الحب القديم الذي أسرني بعنف. ظهر. كل شيء تغير في، الواقعة ألقت بظلالها عليّ. أحسست بغربة قاتلة. الحب الذي رماني على هامش الحياة قد زحف نحوي لينهش ما تبقى مني. نظرت في الفضاء أمامي. أخذت الورقة وكتبت " لا حرية مع حب...".