في أحد الاجتماعات الأكاديمية التي دارت حديثاً، في أحد الأقطار العربية، حضرت معضلة مفهوم الأمة بقوة، في المناقشات التي دارت بين مثقفين، معظمهم دكاترة في الجامعات، ويفترض أنهم يمثلون عصارة النخبة الثقافية، في مجالات اختصاصهم. لكن ذلك لم يحل دون وجود حالة ارتباك شديدة، مرد بعضها غياب الوعي بمفهوم الجغرافيا السياسية، والبعض الآخر، مرتبط بقضايا أيديولوجية شديدة التعقيد.
بعضهم يشطب مفهوم الأمة العربية، مشيراً إلى ارتباطها بالحالة القومية التي بلغت أوجها في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي؛ لأن هذه الحقبة باتت من الماضي. ولم يتورع أشخاص ضمن هذا الفريق من المطالبة باعتماد «الأمة الإسلامية»، بديلاً عن «الأمة العربية»، لأنها أكثر حضوراً في هذه اللحظة من التاريخ.
مثقفون آخرون، يقترحون أن الحل الوسط، هو الحديث عن عالم عربي، بدلاً من أمة عربية. لأن تعبير العالم، يشير إلى التنوع، وعدم التجانس، وذلك هو ما يوصّف بالدقة حال العرب الآن. ويتواصل النقاش البيزنطي، في لقاء من المفترض فيه أن يكون أكاديمياً، فيؤشر البعض إلى أن تعبير العالم العربي، سيخرج المجال الإقليمي من خريطة التحليل السياسي. ستغيب عنه دول مهمة كتركيا وإيران، وكلاهما مرتبط بتاريخ المنطقة، ويؤثر ثقافياً بشكل كبير في أوضاعها. ولذلك يرون أن تعبير منطقة الشرق الأوسط هو الأدق، في هذا السياق.
النقاش باختصار، نم عن ضعف في العلوم السياسية، وبالدراسات الدولية، وأيضاً بالتاريخ المعاصر، الذي أفرزت أحداثه مفاهيم الأمة والقومية. كما أنه يتجاهل أن بعض التسميات الموجودة في قاموسنا السياسي، لا تعبر عن واقع تاريخي، بل هي نتاج استراتيجيات غربية، وهي لا تخصنا بأي شكل، لأنها مرتبطة بالمصالح الحيوية للغرب الاستعماري، في مرحلة بسطه سيادته على العالم، المرحلة التي ارتبطت بوجود نمط لا يزال يفرض سطوته وجبروته، هو المركزية الأوروبية. وفي هذا السياق، نشير إلى أن تعبير الشرق الأوسط، وهو تعبير دقيق إذا اعتبرنا أوروبا، وتحديداً بريطانيا مركز العالم. فالشرق بالنسبة لها أدنى وأوسط وأقصى. وقد شاءت حقائق الجغرافيا، بالنسبة للخريطة البريطانية، أن نكون بين- بين، بين الأدنى والأقصى، فبتنا شرقاً أوسطاً.
ولو كان التصنيف الجغرافي معتمداً على مشرق الشمس ومغربها، لقبلنا به. لكن القبول بذلك سيفرض تعديلات جذرية عليه، تتسق مع الشروق والغروب. لكنه لا يعتمد ذلك. ويغيب عنه أن الأرض كروية، وأن أي جزء منها يمكن أن يكون مركزاً، إذا غيبنا مشاريع الاقتصاد والسياسة، والهيمنة. لكنه وللأسف واقع ليس لنا القدرة على تغييره حتى الآن.
العالم العربي، هو الآخر، تعبير محفوف بالشكوك والظنون، وخاصة أننا العالم الذي يكاد يكون وحيداً فوق الكرة الأرضية. فحسب ما نعلم، لا توجد في الأدبيات السياسية إشارات إلى عالم صيني أو هندي، أو بريطاني أو فرنسي أو أميركي... والقائمة طويلة. يوجد كومنولث بريطاني، وآخر فرنسي، يضم الشعوب التي وقعت تحت قبضة الاستعمارين التقليديين، البريطاني والفرنسي، لكن ذلك لا يرقى لتوصيفه بالعالم.
هل ذلك يعني تميز العرب، بالاختلاف، عن كل الأمم؛ بحيث يكون لهم عالم خاص. وهل يعني ذلك أن سكان الصين والهند، وبلدان «الواق واق»، هم أكثر تجانساً منا جميعاً؛ بحيث لا يحتاج أي منهم إلى عالم خاص به؟ أم أن التعبير ذاته يحمل شبهة التواطؤ على الأمة، والإيحاء باستحالة وحدتها في كيان واحد، على الرغم من توفر العنصر الأساسي الذي صنع من القارة الأوروبية، أمماً، تم تفصيل جغرافيتها في الأغلب على أساس اللغة، من دون أية عناصر أخرى.
قلنا في أحاديث سابقة، إن الدولة في شكلها المعاصر، هي نتاج الحركات القومية، التي عمت بالقارة الأوروبية والتي ارتبطت بالثورة الصناعية. وكانت هذه الحركات في جزء كبير من ماهيتها، ثورة على الكنيسة، وإعلاء للدستور والبرلمان، وفصل الدين عن السياسة. وإن معظم الأمم الغربية، اكتسبت مقاسها الجغرافي، تبعاً لجغرافيا اللغة.
بمعنى آخر، التاريخ الأوروبي، لم يعرف مسمى الأمة المسيحية، لأن مكان الدين المسيحي، هو القلب. إنه إيمان خاص وعلاقة بالخالق، لا يقلل من شأنه عدم وجود دولة، أو أمة. بل العكس ربما يكون صحيحاً، فالمسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية، لا يقلون شأناً عن أقرانهم من المسلمين، الذين يعيشون في دول يعتنق غالبية سكانها الدين الإسلامي. والدين الحنيف، رسالة أممية، ليس لها حدود في الجغرافيا. وكل إنسان في هذا الكوكب، من حقه اعتناق الدين الحنيف، فهو دين موجه لكل البشرية. وذلك بلا شك يختلف عن الانتماء للجغرافيا.
بمعنى آخر، المسلم في دولة غير مسلمة، مطالب بالانصياع لقوانينها ودساتيرها، وآليات العمل بها، بل إنه مطالب، إن كان متجنساً، بالوفاء بالقسم الذي أداه لحظة حصوله على الجنسية، بالخدمة في جيش الدولة غير المسلمة، باعتباره بات منتمياً لجغرافيتها. ولا يقلل ذلك من إسلامه.
الدول الإسلامية، لها انتماءات وطنية، وعلاقات دولية، تعمل من خلالها على ضمان مصالحها الخاصة. وبعض هذه الدول أقامت تحالفات بالضد من مصالحنا القومية، ووقفت في الخندق المعادي للقضية الفلسطينية. وحساباتها في ذلك كانت مرتبطة بالجغرافيا الخاصة بها، وليس بحقائق انتمائها لدين الإسلام. في حين لم يكن للعربي من خيار آخر، سوى اعتبار فلسطين قضيته المركزية، والدفاع عنها لم يكن مدفوعاً بعواطف دينية محضة، بل بمشاعر قومية، وعلاقة بالجغرافيا والتاريخ. ولو كان الأمر بغير ذلك، لكان الاندفاع الإسلامي نحو فلسطين، هو بحجم الاندفاع العربي. وذلك أمر كان سيجد كل الترحيب من العرب قادة وشعوباً. لكن الأمور تسير وفق الحقائق العلمية، وليس بالضرورة وفقاً لرغباتنا وتمنياتنا.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5375 - الخميس 25 مايو 2017م الموافق 29 شعبان 1438هـ