ساعدها ابنها على الخروج إلى الشرفة حيث اعتادت الجلوس لساعات طوال والاستمتاع بهواء نيسان المعتدل. افتقدت حديث جاراتها في القرية منذ اليوم الأول من قدومها إلى المدينة. أصر ناصر هذه المرة على اصطحابها إلى شقته حتى يضمن تناولها المنتظم للدواء الذي غدا وجبة لا مفر منها. كانت "الحاجة" كما كان يلقبها أقرباؤها على رغم أنها لم تزر قط الحرم المكي، امرأة شامخة شموخ جبال الأطلس حيث ولدت وترعرعت. حضنت أبناءها الثلاثة بحنو وحزم بعدما استشهد زوجها الجندي في حرب الجنوب التي انتصر فيها القتل والدمار. حرصت على أن يتابعوا دراستهم وأفنت في ذلك بقية عمرها. تخرجت بنتاها من معهد الممرضات وتزوجتا بعد عام بشابين صديقين يعملان في الديار الإيطالية، ونال ابنها البكر شهادة الدكتوراه وعين أستاذاً في كلية الآداب. اقترن بابنة عمه، وقرر الاستقرار بالعاصمة. ظل طيلة عشر سنوات يتوسل إلى أمه، التي تسابقت الأمراض المزمنة من سكري وضغط وروماتيزم إلى بدنها، لتعيش معه في المدينة لكنها آثرت البقاء في قريتها متعللة بحساسيتها من رطوبة المدن الساحلية. وهنت "الحاجة" وفقدت، مع مرور الأيام، قدرتها على الحركة، فاستسلمت أخيراً لرغبة الابن البار.
كان هواء الشرفة في الطابق الثاني يداعب وجهها فتبتسم وهي تجول بناظريها على شرفات الجيران في العمارة المقابلة التي لم تكن تفصلها عن مقعدها سوى بضعة أمتار. كان الجيران يخرجون إلى شرفهم لنشر الغسيل أو إلقاء نظرة خاطفة على الزقاق الصاخب قبل أن يتواروا خلف الأبواب الزجاجية السميكة. ألفت "الحاجة" طقس خروجها عصر كل يوم إلى الشرفة، واستحلت جلستها الصامتة ونظراتها المتجولة على النوافذ والشرفات. اعتادت الجارات مشهدها وهي تتطلع بفضول زائد إلى كل حركة تستفز حواسها حتى غدا تخلفها عن موعدها محط تساؤلهن وموضوع تنكيت لا ينتهي. كانت الشرفة مكانها المفضل، وكان هواؤها في الأماسي يذكرها بنسيم قريتها عندما كانت هي وصاحباتها يتسامرن فوق السطوح الصلصالية حتى بزوغ الفجر. لم يعد فضول "الحاجة" مزعجاً للجارات لكنه حرم أزواجهن الاستمتاع بفضاء هو أثمن ما في تلك العلب الخرسانية الضيقة. تضايق الرجال من سلوك "الغريبة"، فتعمدوا رشقها بكلمات قاسية وإسماعها عبارات الاستهجان، لكن الغريبة تجاهلت رسائلهم أو تظاهرت على الأقل بذلك، واستمرت في إطلاق العنان لمقلتيها اللتين لا تتوقفان عن رشق كل ما يتحرك قبالتهما بشكل مزعج. طفح الكيل بالأزواج، وأجمعوا أمرهم على أن يشكو العجوز إلى ابنها.
سألوا حارس العمارة، صبيحة اليوم التالي، عن الأستاذ الجامعي الذي يسكن في الطابق الثاني فأجابهم:
ايه...الأستاذ ناصر! لقد أخذ ""الحاجة"" إلى المستشفى لإخضاعها لعملية جراحية... عسى المسكينة أن تستعيد بصرها!
قصة شيقة، أسلوبها سلس، لغتها جميلة و نهايتها مفاجئة و ذكية.........بالتوفيق إن شاء الله