مع توجه الناخبين الإيرانيين يوم (أمس الجمعة) إلى صناديق الاقتراع في انتخابات الرئاسة، بلغ تركز أنظار العالم المشدودة نحو إيران ذروته، ومن نافلة القول أن هذا الاهتمام العالمي ليس نابعاً من ما تمثله إيران من موقع جيوسياسي متميّز على خريطة العالم السياسية فحسب، وبخاصة على رقعة الأقليم، وليس أيضاً لما يمثله شعبها من ثقل سكاني وإرث حضاري يصعب اجتثاث تأثيره في الحاضر أياً يكن نظامها السياسي؛ بل ولما باتت إيران تلعبه اليوم من أدوار سياسية متعددة الأوجه بالغة الأهمية في أحداث ونزاعات الشرق الأوسط الراهنة، بغض النظر عن تباين المواقف الإقليمية والدولية منها.
وبهذا المعنى فلولا أن قواعد اللعبة «الديمقراطية» التي أرساها النظام السياسي منذ قيامه والمتعلقة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية تحديداً تتيح هامشاً من التغيير السياسي إما نحو الإصلاح والتجديد أو نحو المحافظة والتشدد في السياستين الداخلية والخارجية، لما وجدنا ذلك الاهتمام العالمي بانتخاباتها المتعاقبة وبخاصة بعد بروز مصطلحي «الإصلاحيين» و «المحافظين» على الساحة السياسية الداخلية، واللذان لم يكونا شائعين خلال فترة قيادة المرشد الأول للثورة الإمام الخُميني، كشيوعهما منذ نحو عقدين ومن ثمَ تبلورهما كتوجهين متمايزين فعلياً داخل النظام أياً كانت درجة التمايز، ولعل من تجلياته التمايز على سبيل المثال لا الحصر، درجة التشدد الديني في الموقف من حرية المرأة والحريات الشخصية عموماً، وقد برز على نحو خجول في عهد الرئيس الوسطي الراحل هاشمي رفسنجاني، ثم كان أشد بروزاً في عهد الرئيس الإصلاحي المستنير محمد خاتمي. وكان واضحاً لكل مراقب محايد بأن إيران في ظل عهد كلا الرجلين قد شهدت استقراراً نسبياً في علاقاتها الإقليمية والدولية، كما شهدت نسائم متقطعة من الحريات العامة والخاصة ومرونة في فرض الزي الإسلامي للمرأة من جيل الشباب، وعلى رغم توظيف المحافظين هذه المرونة في صراعهم ضد الإصلاحيين، ومن ثم استغلال نفوذهم وقرب مواقعهم من المرشد الإمام خامنئي للعصف بها باعتبارها خروجاً عما بات يُعرف «الضوابط الشرعية» لعفة المرأة، حتى لو تعلق الأمر بضبط خصلة شعر برزت من تحت حجابها، وهكذا جرت حملات تعقب واسعة بين الفينة والأخرى على الخارجات عن «الضوابط» في الأسواق والشوارع.
بيد أن هذه المناكفات لإحراج الإصلاحيين لم تعد ذات جدوى أو تثير أدنى اهتمام المواطن العادي اليوم الغارق في همومه اليومية، بفعل تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدني مستوى الحياة المعيشية، وتصاعد البطالة والحصار الاقتصادي الغربي المضروب على بلده، وبدا واضحاً بدون أن يثير أي ضجيج التمييز بين الفتيات المرتديات أزياء عصرية معتدلة الاحتشام في حملات فريق الإصلاحيين، وبين الفتيات المتمسكات بصرامة بما يُعرف بالزي الإسلامي الملتزم بـ « الضوابط الشرعية» في فريق المحافظين، وحيث تبدو سمات غالبيتهن تنحدر من الأرياف.
ومن بين 1636 شخصاً تقدموا بطلب ترشيحهم إلى مجلس صيانة الدستور وفي عدادهم 137 إمرأة، لم يوافق المجلس سوى على 6 مرشحين ذكور فقط، أي ليس من بينهم إمرأة واحدة. ولا شك أن هذا العدد الكبير للمتقدمات بطلب الترشيح لا يعكس فقط الدور الذي باتت تلعبه المرأة الإيرانية في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والذي أثبتت فيه جدارتها بامتياز من خلال المناصب التي تولتها؛ بل ويعكس أيضاً صمودها الفولاذي الذي لا يلين منذ عقود في رفض الاستسلام لواقع التهميش الذي يُراد لها أن تبقى عليه في مجتمع ذكوري، وإصرارها على انتزاع حقها الدستوري في الترشح حتى لأعلى منصب تنفيذي في الحكومة (رئاسة الجمهورية) كما كفلته لها المادة 115 من الدستور، والتي يتجدد الجدل بشأن تفسيرها لغوياً وفقهياً ودستورياً منذ نحو عقدين مع كل انتخابات رئاسية جديدة، عما إذا يعني نصها حق الذكور والإناث على السواء للترشح أم «الرجال» حصراً، علماً أن نصها في الدستور جاء كالتالي: «يُنتخب رئيس الجمهورية من بين الرجال الدينيين السياسيين الذين تتوافر فيهم الشروط التالية...». لكن غالبية أعضاء مجلس صيانة الدستور دأبت على تفسيرها بأن الحق محصور في الذكور، مع أن كثرة من اللغويين والفقهاء القانونيين والشخصيات السياسية المؤثِرة، ومنهم الرئيس الراحل رفسنجاني نفسه والذي أصبح لاحقاً رئيس مجلس مصلحة تشخيص النظام، أكدوا أن تعبير «رجال سياسيين» الذي ورد في تلك المادة إنما قُصد به كلا الجنسين، وأنه عند صياغة الدستور غداة «الثورة» تُرك التعبير غامضاً حيث لم تكن الظروف مؤاتية لتفسيره لصالح المرأة بشكل قاطع حسب تعبير رفسنجاني، والراجح في تقديرنا أن مفردة «الرجال» إنما قُصد بها «الأشخاص» أو «الأفراد» في كلا الجنسين، تماماً كما هو الحال في اللغة العربية وليس الذكور فقط.
ولو أتينا إلى مجال العلاقات الدولية فلم يعُد ينفع أي دولة، وإيران هنا نموذجاً، إيمانها المطلق بأنها تسير على جادة الصواب في سياساتها الخارجية لتتمسك تمسكاً أيديولوجياً متشدداً بهذا النهج الشعبوي لا تحيد عنه قيد أنملة، بل لا بد لها في عالم اليوم بمتغيراته الهائلة المتسارعة وهي تواجه منذ عقود تحديات داخلية وخارجية جمة في منتهى التعقيد أن تتبع قدراً من السياسة الواقعية البراغماتية، للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية المجردة بأقل التكاليف الممكنة وأن تنحني أحياناً، ولو قليلاً، للعواصف مقتدية بالشعار الكلاسيكي «السياسة فن الممكن»، لذلك رأينا كم كسبت إيران داخلياً وخارجياً حينما أوصل الناخبون إلى سُدة الحكم في ظل انتخابات نزيهة أهم وجهين إصلاحيين في تاريخ الانتخابات الرئاسية منذ ثورة 1979 ألا وهما الراحل هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي.
وبهذا فكم كانت إيران ستكسب أيضاً لو سمح مجلس صيانة دستورها بعدد أكبر من المرشحين الإصلاحيين وبثلاث نساء أو حتى بامرأة واحدة من ال 137 امرأة لترى - إيران - كيف سيغيّر العالم نظرته النمطية تجاهها. صحيح أن المرشحين كان من أبرز الشعارات والوعود التي خاضوا بموجبها معركتهم الانتخابية قضية ارتفاع البطالة التي وصفها الرئيس روحاني بـ «أم المفاسد» وقدّر صندوق النقد الدولي نسبتها بـ 11 في المئة، وهو رقم قريب من الأرقام الرسمية، بما يعادل 5 ملايين عاطل، وكذلك قضايا الفساد والركود والتضخم وتدني الإنتاج، لكن النوايا الطيبة لا تكفي لخوض المعركة الانتخابية وجذب الناخبين بالوعود، مالم يكونوا قادرين حقاً على إقناع ناخبيهم بمؤهلاتهم وخبراتهم السياسية على إدارة ملفات تلك القضايا بكفاءة، وبخاصة شريحة الشباب الذين يشكلون ما يقرب من 60 في المئة من السكان، وكذلك فئة النساء اللواتي يشكلن نحو 50 في المئة منه، ولاسيما إذا ما علمنا أن مشاكل جيل اليوم من الشباب تكون أكثر صعوبة من سالف العهود، وعلى الأخص الخريجين منهم حيث نحو خمسة ملايين طالب جامعي جديد تستقبلهم الجامعات الإيرانية سنوياً وثمة مليون خريج شاب سنوياً.
ولعل نسبة المتوجهين إلى صناديق الاقتراع هي التي ستحدد بالضبط إلى أي حد كان يعوّل الناخبون الإيرانيون على انتخابات الأمس للتغيير نحو الأفضل ولو نسبياً، كما أن ارتفاع هذه النسبة هو بلا شك يصب لصالح الرئيس المرشح لولاية ثانية حسن روحاني، وحيث لم يتبقَ أمام جيل الشباب، ذكوراً وإناثاً، من خيار سوى التعويل على فوزه بالتصويت له، فهل ينجح؟ ذلك ما ستبينه على الأرجح الساعات القليلة المقبلة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5369 - الجمعة 19 مايو 2017م الموافق 23 شعبان 1438هـ
اتوقع فوز الشيخ حسن روحاني.