لزمن ليس ببعيد كنا نستحي أن نلبس ثياباً ممزقة ولو بحجم ربع خنصر. وكنا نخصصها لاستخدامات السيارة أو للتنظيف. اليوم لم يعد ذلك عيباً لدى الكثيرين. بالتأكيد ليس ارتفاع الحرج من لبسها والخروج بها إلى الشوارع نابع من زهد أصحابها «بالدنيا وزخرفها» بل بسبب تحوّل الثياب الممزقة عند الفخذين أو الركبتين إلى ألبِسَة حديثة تواكب الموضة العالمية.
أيضاً، في السابق، لم نكن نرَ رجالاً يخرجون إلى الأسواق والأماكن العامة بسراويل قصيرة وهي في كامل أناقتها (كما تفترض هي)، فهي ملابس كانت تُخصص لساعات المكوث في البيت أو النوم. أما اليوم، فأنت تذهبُ إلى المجمعات التجارية لتشاهد رجالاً يتبضعون بسراويل قصيرة بعضها يصل مداه لفوق الركبة بقليل أو تحتها أحياناً، مع حذاء لا تظهر منه الجوارب إما لقصرها أو لغيابها أصلاً من القدمين!
اليوم، مَنْ يذهب إلى سرير النوم وهو يلبس ثوباً عربية بيضاء وغترة وعقالاً، أو قميصاً بربطة عنق قد يُنظَر له على أنه أبله، أو يفعل ذلك للتفكيه، لكننا لا نعلم فلربما يأتي الوقت الذي نرى فيه دعايات الموضة تُشجِّع على ذلك فيندفع الكثيرون من الرجال إلى ذلك الفعل! هل هذا مستحيل؟! لا أعتقد؛ فالتجارب السابقة لم تترك لنا شيئاً إلاّ وبات ممكناً بعد أن كان التفكير فيه يُعد تجاسراً.
عندما كنا صغاراً كنا نشتري حذاءً للرياضة بـ 500 فلس ثم أصبح بدينار واحد في أقصى حالات «الغلاء». في هذه الأيام، تفاجأت أن ذات الحذاء أو لنقل يكاد يكون هو يُباع بأزيد من 50 ضعفاً أو أنقص! شيء لا يُصدَّق أبداً. كنتُ أحدِّث نفسي ماذا لو احتفظتُ بـ 50 زوجاً منه لـ 30 سنة ثم عرضتها اليوم للبيع فكم سأربح من ذلك يا ترى؟! في عملية حسابية سريعة فإن صافي الربح لن يكون أقل من 1400 دينار! إنها صفقة رائعة.
هذا هو الجو الذي يحكم العالم اليوم. والحقيقة أن مردَّ هذا الهَوَس بالموضة يعود إلى الصورة التي تُقدِّم لنا الجديد وكأنه قيمة إنسانية تتحقق ذوات الناس من خلالها. لكن وبالتعمق في ذلك الأمر لا يمكن إلاّ ونستحضر حديث رولان بارت للصورة التي رأى فيها انعكاساً للثقافة الاستهلاكية التي تقوم بالتشجيع عليها الرأسمالية، على اعتبار أن الصورة هي لدفع الناس للاستهلاك الذي إذا تحقق استمرت معه عملية الإنتاج، وإذا ما استمرّ الإنتاج استمر معه الربح وفق مفهوم بارت.
والحقيقة أن تفسير رولان بارت هو تفسير عميق يتجاوز كل التعريفات البسيطة لقضايا الصورة والاستهلاك وخلافها. لذلك ليس من الغريب أن نعرف بأنه وقبل ثلاثة أعوام بلغ حجم الإنفاق على الإعلان في العالم 537 مليار دولار أميركي وهو يزداد بشكل مضطرد. ومع تطور التكنولوجيا أصبح الإعلام الرقمي يلعب دوراً في الترويج والتسويق بصورة لم يسبق لها مثيل. كل ذلك من أجل التشجيع على الشراء والاستبدال. وهو إنفاق يتم الحصول من ورائه على أضعاف من الأرباح.
لم تعد الناس ترى أن الطبيعي هو أن آجالاً تحكم استخدامها للأشياء. لذا، فهي تستبدل أشياءً جديدة بأشيائها القديمة على رغم أنها ما تزال في أحسن حال، مضافاً إليها الأشكال الجديدة لتلك الأشياء التي تُشكّلها الموجة وجنونها. فالضرروة أصبحت للتغيير وليس للعناية. بل بات الإبقاء على استعمال ذات الأشياء التي لم يَحِن أجل عَطَبها نوعاً من البخل أو التخلف، أو ربما حب الحفاظ على ما بات يُعرَف بـ «الأنتيك» فيصبح المرء واحداً ممن يلاحقهم ذلك الوصف.
في شهر مايو/ أيار الماضي كَتَبَ والتير ستاهل مقالاً تحت عنوان: The circular economy بشأن علاقة الإنسان بالسلع. وهو يُقدِّم تجربة حصلت معه حين أراد تغيير سيارته اليابانية المُصنَّعَة في العام 1969م. يقول بأنه وحين وصل عُمر استهلاكه لسيارته ثلاثين عاماً قرّر أن يعيد تصنيعها (دون تغييرها) من جديد. استمّر العمل قرابة الـ 100 ساعة طيلة شهرين كاملين حتى أعادها إلى صورتها الأولى وكأنها جديدة. عندما رَمَقَها جاره هنأه قائلاً: وأخيراً اشتريتَ سيارة جديدة! ثم يُعلق ستاهل بأن الناس ما تزال تعتقد أن الجودة مرتبطة أساساً بالجديد أكثر من ارتباطها بالعناية.
أتذكر أنني وحين بدأت في تعلُّم فنون الخط العربي كنتُ في الصف الثالث الابتدائي. وكانت رغبتي هي أن أقتني قلماً خاصاً بالخط العربي تكون شفرته مائلة. بعد بضعة أعوام استطعت أن أشتري قلماً من ماركة SHEAFFER. اليوم ما يزال هذا القلم الجميل ذي اللون الأحمر يعمل لدي بطريقة أفضل من أيّ قلم آخر على رغم مضي 29 عاماً. لكن لم تعد جودته تقنع الآخرين به ومنهم أولادي ما دام قديماً.
هذه الثقافة (الاعتناء بالأشياء وإبقاء استخدامها) لا يُراد لها أن تسود. فالشركات الكبرى حول العالم تريد أن تُنتِج وتبيع بأقصى حد ممكن. وقد أشارت إحدى الدراسات التي أُجريَت على سبع دول أوروبية أن The circular economy أو الاقتصاد الدائري يمكنه أن يساعد على التقليل من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 70 في المئة في كل دولة حسب ستاهل، ويزيد من قوة العمل لديها بنسبة 4 في المئة. والمعروف أن ذلك النوع من الاقتصاد يقتضي التقليل من البيع ومعالجة ما هو موجود. لكن القوة المهيمنة هناك لا تريد أن يحدث مثل ذلك الأمر. ولا أعتقد أننا بمنأى عن تلك الهيمنة الناعمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5367 - الأربعاء 17 مايو 2017م الموافق 21 شعبان 1438هـ
موضوع الموضة صار أولوية على عاداتنا وتقالدينا وتربيتنا .. للأسف !
موضوع السراويل القصيرة والضيقة والممزقة التى يرتديها الشباب والشابات هذه الأيام أعتقد ان النواب الكرام ناقشوها فى مجلسهم الموقر وباستفاضة واصدروا بها قوانين برغبة وهم فى انتظار رد الحكومة؟ .. وإلا سيضطر النواب على طرح الثقة فى الأشخاص الذين يلبسون هذه السراويل القصيرة والضيقة والممزقة فى الشوارع والأماكن الحيوية والعامة فى مملكة البحرين؟!!.
الموضة تصبح احياناً فوضى.. وكلها كوم ولبس بنطلون الـ lowest و/أو الفانيلات القصيرة كوم.. شيء يخجّل الناظرين بينما قد يكون الشخص اللابس لتلك الملابس في وهم المتعة..
قالوها الطيبين: عتيج الصوف ولا يديد البريسم.
شكرا أستاذ
كتبت فأجدت
للاسف اصبحنا بلا عقول
لا نفكر
فقط نرى ما هو جديد بتمشي وراءه دون تفكير
هل هو صح ام خطأ
هل يتماشى مع الدين و القيم ام لا
هل ينمي فكرنا ام يرجع بنا للوراء
اصبحنا همج رعاع
لا نفكر لا نبدع لا ننتج
مستهلكين و اي مستهلكين
مستهلكين سلبين