من بعيد لمحتها قادمة، كانت تحث الخطي ولا تلتفت يميناً أو يساراً وكأن هذا العالم لا يعنيها أبداً، تبدو دائماً مُطرقة الرأس ولا تنظر لأعلى إلا لماماً، لم تكن تتمهل في مشيتها إلا أمام واجهة العرض حيث كانت نظراتها تخترق الحاجز الزجاجي بقوة حانية، وعلى رغم الذبول الظاهر في عينها فقد كان لهما بريق أخاذ ولمعة تضاهي الذهب، لم يكن يبدو على مظهرها المتواضع وملابسها المهترئة أنها تستطيع اقتنائي يوماً ما ولكنها ظلت في غدوّها ورواحها تنظر إليّ تلك النظرة التي تجعلني أشعر بأنني فستان عرس لفتاة تزوجت حبيبها بعد طول انتظار وليس مجرد فستان أزرق ينتصب في الصف الثاني للواجهة ولا ينظر إليه أحد؛ تقف أمام واجهة العرض للحظات وكأنها تسرقها من الزمان خلسة وقد يكون الزمان هو من يتوقف لها خصيصاً كي يحظى منها بتلك الابتسامة الحقيقية، خلاف تلك اللحظات كانت حياتي خلف واجهة العرض عادية... يرمقني المارة بنظراتهم الباهتة وعيونهم اللامبالية وينصرفون فوراً لأي شيء أخر.
وما إن يجن الليل وتخف حركة المارة حتى تظلم الواجهة لتصبح حالكة السواد وتبدأ الملابس في سرد أحداثها التي تدور حول عدد الأشخاص الأثرياء الذين قاموا بتجربتهم على وعد بالشراء غدا؛ فجل ما تحلم به قطع الملابس هنا أن يقوم بشرائها شخص مقتدر يذهب بها إلى خزانة ملابس مريحة... يرتديها قليلاً ثم يقوم بطيها وتركها في تلك الخزانة مدى الحياة، أما أنا فقد كان حلمي مختلفاً؛ فقد حلمت طوال عمري الصغير أن ترتديني فتاة مفعمة بالحياة، فتاة تعدو في الطرقات مع أترابها واختبر معها شعور الطيران... تذهب بعدها إلى البيت مسرعة وتتناول طعامها بشراهة وتسقط عليّ بعضاً منه. في نهاية اليوم أقف هناك أحمل شيئاً من رائحتها ونتفاً من ذاكرتها ويتملّكني إحساس قوي بأنني أكثر من قطعة ملابس. أفقت من غفلتي على قطعة تسألني كيف كان يومي فوجدتني أجيبها بأنه كان كالعادة... لم ينظر إليّ أحد.
كنت أشعر بأن نظرات الصغيرة هي سرنا الذي سأحفظه دوماً، في اليوم التالي اقتنتني فتاة أخرى وذهبنا إلى منزلها، وضعتني داخل الخزانة المظلمة وهناك قابلت قطعة أخرى كانت دوماً هي المميزة بالواجهة نظرت إليّ مطولاً ثم قالت:
- لا تتأمّلي كثيراً فالحياة هنا ليست كما حلمنا.
- لم يكن هذا حلمي يوماً، الحلم بالاستقرار هو خذلان لفكرة الحلم لأنه عادة ما يتسم بالحرية، إذا حاولنا تقييده فجل ما سيفعله هو أنه سيسعى جاهداً إلى أن نحقق ما ظنناه حلماً حتى يجعلنا ندرك بأننا كنا مخطئين.
تركت القطعة الأخرى تتحدث وفكرت في الصغيرة ترى هل وجدت فستاناً آخر تبوح له بمكنونات صدرها دون أن تنبس ببنت شفة؟
وأخيراً قررت الفتاة ارتدائي؛ أخيراً سأرى العالم دون اللوح الزجاجي، ولكن أياً من ذلك لم يحدث فقد كنا نركب سيارة طوال الطريق وكان هناك ذلك اللوح الزجاجي اللعين... لقد تمنيت أن تضفي عليّ تلك الفتاة بعضاً من حياة ولكنها لم تكن تملك ذلك الذي تضفي عليّ بعضاً منه، أغمضت عيني وحلمت بالفتاة الصغيرة وقد استطاعت أخيراً أن تقتنيني ليلة العيد حيث ستقضي الليلة وهي تضمني إلى جوارها أسمع من مكاني تسارع ضربات قلبها من فرط السعادة... حينها فقط أشعر بالحياة وقد دبّت بخيوطي للحظات، وفجأة لمحتها قادمة، كانت بنفس هيئتها وإن بدت أكثر ذبولاً نفس نظرتها المطرِقة... حاولت أن أطيل النظر إليها ولكنها كانت مسرعة تجاوزت واجهة العرض ورأيتها تنظر مطولاً إلى قطعة حلوى.