أطلت علينا على رغم انوفنا قناة «الحرة» الفضائية الأميركية على أمل تحقيق ما تحلم به إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش أن تعمل على تغيير أفكار المواطن العربي. ومن سخرية القدر أن تبدأ تلك القناة المسيسة وغير المرحب بها في الوقت الذي تواجه فيه إذاعة الـ «بي بي سي» البريطانية محنة قد تهدد مستقبلها.
ويقول خبراء الإعلام: إن التأثير الإعلامي على المتلقين لا يظهر سريعا وإنما يحدث الإعلام الموجه أثره كما تحدث قطرات الماء المتساقطة على الصخر إذ يتجاهلها المتابع في اللحظة لكنها تنخر الصخر على المدى البعيد.
فقد استقبل العالم العربي قناة «الحرة» بتشكيك لا بل بازدراء. وقال المحلل السياسي المصري سلامة احمد سلامة إن «القناة ومقدميها يلحون على أنهم أحرار وكأنهم يريدون أن يقولوا للمشاهد العربي أنت لست حرا، وتعيش تحت القمع والضغط ونحن سنعلمكم الحرية وهذا من أغبى ما يكون».
ويجيء أطلاق هذه القناة لتكمل ما أعلنه الرئيس بوش وكرره عبر شاشتها انه سيعمل على نشر الديمقراطية والحرية في «الشرق الأوسط». أية ديمقراطية هذه التي يريد سادة البيت الأبيض أن يفرضوها علينا فرضا بل وحتى تعليمنا أسسها عبر الشاشة البلورية وكأن العالم العربي قد خرج للتو من مجاهل التخلف والأمية وهو ينتظر أن يعطف عليه الأميركان الذين يمارسون كل أنواع الدكتاتورية والبلطجة على شعوب العالم وما يحدث في العراق وأفغانستان ليس ببعيد.
ما تسعي إليه الولايات المتحدة عبر ما تسميه قناة «الحرة» هو في حقيقة الأمر محاولة للتغطية على الإعلام العربي الذي فضح عبر الصورة والكلمة الحرة ما تقوم به قوات الاحتلال الأميركي في العراق من تجاوزات لأبسط القيم الإنسانية وكيف أن حياة الفرد العربي والمسلم تبدو رخيصة في عقل الجندي الأميركي الذي يزعم قادته انه قدم إلى المنطقة لنشر الديمقراطية وتخليصها من أنظمة متبطرة قمعية.
واعترفت الولايات المتحدة مع إطلاق هذه القناة ان قناتي «الجزيرة» و«العربية» سببتا الكثير من الأذى لمخططات القيادة العسكرية الأميركية في العراق. ويعد هذا بمثابة تغليف لحقيقة الوضع وهو أن تلك القناتين فضحت ممارسات، وسياسات الاحتلال وعكست الصورة الواقعية لما يحدث ولذلك يجب التشويش عليهما ومحاربتهما عن طريق مد المتابع العربي - ما أمكن - بمواد تحسن صورة الجندي الأميركي البطل.
في موازاة ذلك حملت لنا الأنباء ان الحكومة البريطانية تفكر في خطة لتفكيك هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» وتبحث إمكان حرمانها من جزء من استقلالها. وقالت تقارير صحافية: إن هناك وثائق صاغها موظفون كبار تذكر بالتفصيل التغييرات المحتملة في الهيئة واحتمال تجزئتها إلى أربع هيئات إقليمية في انجلترا واسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية. وأشارت الوثائق إلى إمكان سحب مهمة مراقبة حيادية «بي بي سي» من مجلس حكامها. هذا الطرح الغريب الذي قد يطال مؤسسة إعلامية عريقة تكاد تكون رمزا لبريطانيا ويتابعها الملايين في العالم بكل اللغات على رغم أنها طبعا لا تتمتع بكل الاستقلالية المطلقة فهي في النهاية تخدم سياسة لندن. وتدهورت العلاقات بين الحكومة والـ «بي بي سي» أخيرا بسبب التحقيق الذي بثته الهيئة في مايو/ أيار الماضي واتهم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بأنه ضخم خطر اسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير الحرب على بغداد.
وعلى رغم أن هيئة الإذاعة دفعت الثمن غاليا في هذه القضية باستقالة اثنين من قادتها واعتذرت علنا عن الخطأ الذي وقعت فيه فان حقد حكومة بلير عليها تجاوز كل الأعراف وهاهو يعمل على إسكات حسها لأنها بكل بساطة مارست الحرية والديمقراطية وكانت عند مستوى المسئولية عندما تأكد وقوعها في الخطأ. بريطانيا حليف أميركا تعمل على سحب الاستقلالية وتحاول فرض سيطرتها الكاملة على الـ «بي بي سي» ما يعني عمليا جعلها تابعا للإدارة الحكومية وتأتمر بأمرها، فهل توافق أميركا حامية الحرية والديمقراطية على ذلك أم ستعمد إلى إطلاق إذاعة «الحرة» كبديل لـ «بي بي سي»
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 536 - الإثنين 23 فبراير 2004م الموافق 02 محرم 1425هـ