تمثل سلطنة عمان موئلاً للحضارات القديمة والحديثة، وارتبط تاريخها بنجمة قوى عالمية رئيسية هي الصين وإفريقيا والجزيرة العربية وشبه القارة الهندية وإيران، إنها تقع على بحر العرب وبحر عمان والخليج العربي والبحر الأحمر والساحل الإفريقي والمحيط الهندي ومضيق هرمز ومضيق باب المندب، وأنا لا أتحدث عن عمان النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين؛ وإنما عن عمان التاريخ والحضارة والامتداد الجغرافي التاريخي والدور السياسي والاقتصادي والتجاري عبر العصور، وهذا كله شكل الهوية العمانية، وأنا كشخص أعجبت بالهوية العمانية، وكيف أن هذه الدولة حافظت على توازن واعتدال سياسي مشوب بالعزلة من ناحية والانفتاح من ناحية أخرى.
الشعب العماني فخور بتاريخه وحضارته ومؤمن بقيادته، لقد التقيت بكثير من العمانيين عبر عملي الدبلوماسي في دول كثيرة، وهذا جعلني معجباً بالمواطن العماني وبالدبلوماسيين العمانيين.
إن العنوان أعلاه هو اسم ديوان شعر للشاعر العماني سعيد الصقلاوي، وهو مهندس خريج كلية الهندسة من جامعة الأزهر بجمهورية مصر العربية، وحاصل على ماجستير في التصميم الحضري من جامعة ليفر بول بالمملكة المتحدة، وهو عضو هيئات كثيرة تنتمي للتخصص المهني، وللفكر الاجتماعي والإنساني، وهو إنسان يتسم بالهدوء ويبتعد عن أسلوب الشعارات والعنتريات، إنه يعكس الهوية العمانية الهادئة المعتدلة الواثقة والواقعية.
إن الشاعر والمهندس والكاتب والمفكر والباحث التاريخي والسياسي سعيد الصقلاوي يجمع كل تلك الصفات والتوجهات، ولكنني فقط أركز على إحدى هذه الصفات والمواهب وهي كونه شاعراً، ومن خلال قراءتي لديوان شعره يمكنني أن أسوق عدة نقاط أو ملاحظات مما لمسته في ذلك الديوان وهي:
الأولى: إن الديوان متميز ومتفرد في أشعاره، فهو يجمع بين قوة اللغة وسلامة الأسلوب وبعد الكلمات التي تحول التاريخ إلى شعر، وهو يدرك أن التاريخ القديم وأحداثه ومفكريه وساسته ربما لا يعرف الكثيرون دلالاتها، ولا حتى أسماءها ومن ثم يوضح معاني تلك الكلمات والأسماء الكثيرة في قصائده.
الثانية: يقع الديوان في 128 صفحة وربما نجد ربع صفحات أو أكثر قليلاً تدور بشأن الوطن ومكانته وحبه له وارتباطه به، وهذه حالة فريدة في شعراء العصر العربي الحديث الذين كثيراً ما ينتقدون أوضاع بلادهم وقياداتهم، وهذا ما ليس موجوداً في ديوان سعيد الصقلاوي؛ بل إعجاب بالوطن وتاريخه وحب له في كل أحواله ونلمس ذلك مثل «قلوبنا عيون» وقصيدة «إليك تسعى جفوني» ويبلغ الفخر بالوطن والاعتزاز به في قصيدته «خيل وجناح» ولا ينسى أن وطنه جزء من الأمة العربية، فيتناول العروبة وأرضها وشمسها من أقصى الغرب في الأندلس إلى الدولة العباسية إلى الدور العماني في تحرير عمان والخليج من الاحتلال البرتغالي، بل يبلغ حب الوطن أقصاه في آخر بيت في تلك القصيدة بقوله «الزمان والمنتهى دين يسن»، وهذه القصيدة من أطول قصائد الديوان، وأيضاً نلمس هذا الحب للوطن العربي الكبير في قصيدة «سلام على الرافدين» وتقع في ست صفحات تركز على العراق، واستعادة مسقط من البرتغال، وتاريخ الدولة العباسية مع إبراز الشخصيات العمانية التي ساهمت وأثرت الفكر العربي والإسلامي؛ بل والنضال ضد الفرس والصفويين دفاعاً عن البصرة، ويذكر أسماء المدن العمانية وخصائصها وجبالها وهضابها، فتدرك أنك لست أمام قصيدة شعرية؛ بل أمام دراسة مكثفة في التاريخ والجغرافيا بل والجيولوجيا، ويدرك الشاعر صعوبة ذلك على غير المتخصصين فيقدم في الهامش شرحاً موجزاً للأسماء التي وردت في المتن، ثم يتابع الشعر الوطني السلس والواضح؛ ولكنه مليء بالكلمات المعبرة عن الحب الصادق للوطن، ويتجلى ذلك في قصيدة «سلمتَ وتسلم» وفي قصيدة «شمس التاريخ» التي يمكن أن نقول إنها تنتمي لعلم الانثروبولوجيا والأنساب فهو يسرد أساس ومعنى «عمان» والأسماء التاريخية المنتشرة في شبه الجزيرة في الماضي مثل جرهم، ونزوى وصور وحضرموت، وعاد وسومر وماجان، وطسم وجد يس وعمليق وارتباط ذلك كله بالهند وإفريقيا وتاريخ عمان التاريخية، وأصبح في هذه القصيدة أسماء كثيرة ذات أصول عمانية من قبائل الأزد ودورهم في المنطقة والمهلب بن أبي صفرة، ومالك بن نهم الأزدي وغيرهم، وقصيدة «مشرق الزمان» هي غزل في الوطن وتاريخه القديم وأمجاده، ويخرج الشاعر عن اعتداله وسماحته في قصيدة «أردت التحدي» فنظر لوطنه بأنه رمز التحدي ويشيد به بإعجاب شديد، وقصيدة «نحو هذا الوطن» تشرح مفهوم الوطن في سلاسة ورقة.
الثالثة: ولا ينسى الشاعر في ديوانه «الغزل» ولكنه غزل من نوع خاص إنه يتصف بالحياء الشديد، إذ إن قصيدة «في عيون الشام» تجمع بين الغزل العفيف للغاية والبعد الجغرافي والطبوغرافي والثقافي لبلاد الشام، وقصيدة «إغراء» وقصيدة «ها أنت» وقصيدة «قلوبنا عيون» فهو يقدم في تلك القصائد غزلاً رمزياً، وكذلك قصيدة «منديلك».
الرابعة: الطابع الفلسفي والنفسي في قصيدة «وجدنا كي لا نموت»، ولا ينسى الصداقة والمودة لأصدقائه كما في قصيدة «عراقي» وفي قصيدة «رسالة» نشعر أن الشاعر فيها أمام صراع نفسي لما يحدث من تقلبات الزمن والحياة، وقصيدة «ذكرى» تعكس الافتراق وصعوبة نسيان الأحبة، وكذلك قصيدة «دنا « تعبر عن الشوق ودعوة الحبيب للاقتراب، وفي قصيدة «باب الليل» حب عفيف أو ربما تطلع لحب من نوع ما، كذلك قصيدة «إليك تسعى جفوني».
الخامسة: إنني لم أستطع أن أتبين الرابطة بين العنوان للديوان وهو «وصايا قيد الأرض» وقصائد الديوان، وأتساءل هل يعني ذلك أن القصائد لا تحلق في السماء والخيال بل هي تعبر عن الواقع وهذا أقرب التفسيرات للحالة؟، ولا أدري هل هذا هو المقصود أم شيء آخر معناه في بطن الشاعر كما يقول المثل؟
السادسة: إن الشاعر المهندس سعيد الصقلاوي يعبر في شعره وفي أحاديث والتحاور معه عن نفس صافية وثقافة عميقة وعن حس عروبي صادق في قصائد عن عبدالرحمن الداخل في الأندلس، وعن تونس الخضراء وغيرها من الدول العربية، وربما لديه قصائد عن مصر والأزهر الذي تعلم به في دواوينه الأخرى؛ ولكن ليس في هذا الديوان الذي نعرض له.
السابعة: هي التهنئة للشاعر سعيد الصقلاوي على هذا العمل الشعري المتميز، وعلى استخدامه اللغة العربية وليس العامية وعلى التعبير عن انتمائه العماني الخليجي العربي في الكثير من قصائده، أما التهنئة الثانية لسعيد الصقلاوي فهي أن شعره حاز إعجاب كثيرين، وخاصة من أبناء مصر العربية؛ حيث أعد الباحث المصري محمد عبدالرحمن العام 2007 دراسة عن بنية القصيدة عند سعيد الصقلاوي، حصل بها على درجة الامتياز من جامعة الفيوم، وقام بترتيب ودراسة دواوينه الأربعة الصادرة «ترنيمة الأمل» العام 1975 ثم «أنت لي قدر» 1985 ثم «أجنحة النهار» العام 1999، و «نشيد الماء» 2004، وهذا يعني أن سعيد الصقلاوي هو شاعر متميز، وهذا هو الديوان الخامس له وهو في الوقت نفسه مهندس متميز، وعضو في الكثير من منتديات الفكر، ومنها منتدى الفكر العربي وهو المنتدى الذي أتاح لنا فرصة التعارف والتحاور معاً عبر فترة انعقاده.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 5355 - الجمعة 05 مايو 2017م الموافق 09 شعبان 1438هـ