ضمن اهتمامه بمستجدات الساحة المعرفية والاجتماعية، ناقش منتدى الثلثاء الثقافي في ندوته الأسبوعية الثامنة والعشرين من موسمه الثقافي السابع عشر موضوع "مستقبل التدين في المجتمعات المسلمة.. مقاربة للحالة السعودية" باستضافة مدير مركز دربة للتحول المجتمعي عبد الله حميد الدين، وذلك مساء الثلثاء (2 مايو/ أيار 2017).
وكعادة المنتدى اسبوعيا، صاحب الندوة مشاركة الشاب هادي المرزوق معرفا بمبادرة "مبادرون" ببلدة الأوجام التي تأسست عام 1422هـ وتهتم بتنمية مواهب الطلبة في النواحي التربوية والرياضية والتعليمية والترفيهية ضمن برامج ثابتة وأخرى متغيرة.
كما تضمنت الفعاليات المصاحبة مشاركة الفنانة أنفال السادة بمعرضها التشكيلي، حيث تحدثت عن قيمة الفن كروح ومشاعر وعن تجربتها الفنية التي تتركز حول مكانة المرأة ودورها ومسئولياتها الحياتية.
وأدار الأمسية عضو اللجنة المنظمة للمنتدى زكي البحارنة مفتتحاً الندوة بالتأكيد على أهمية النقاشات البناءة والموضوعية للظواهر والمفاهيم التي تنشأ بفعل أسباب مختلطة وتفكيكها بالحوار بغية الوصول لنتائج قد لا تكون حاسمة ولكنها تكون ملهمة.
وبدأ حميد الدين حديثه بالإشارة لأهمية الايمان كأساس روحي للأخلاق والجمال وحرية الارادة مقدماً قراءة موجزة في التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المجتمعات المسلمة خلال القرن الماضي وما خلفته من تأثير على الصورة الراهنة للتدين في الواقع المحلي ومؤشراتها المستقبلية، موضحاً أن الحالة السعوديَّة ليست فريدة أو مختلفة عن حالات المجتمعات الأخرى.
وأشار عبد الله إلى أن مسار التحول حصل في جانبين الأول "في الخطاب والممارسات" والتي غالباً ما يتركز عندها جدلنا حول التحول الديني، والثاني هو "التحول الأعمق" المرتبط بنوع العلاقة مع التديّن، مبيناً أهمية تشخيص ووصف هذا التحول لأنه يُفيد في معرفة العوامل التي تتفاعل لصناعة شكل التحّول في هذه العلاقة، فهي إما أن تؤدي إلى التطرف أو إلى ترك الدين أو إلى مراجعات – جذرية أو سطحية - للدين أو إلى تشكيل تديّن انتقائي، وغيرها من الأشكال المحتملة التي يصعب حصرها.
من جانب آخر، أوضح أن فهم ظاهرة التديّن والتحولات تعتمد على متابعة الجدالات التي تدور بين "العوام" من المسلمين، وليس على متابعة قراءات المفكرين، ولذلك سببين أساسيين الأول لوجود هوة بين ما يقوله المفكرون ورجال الدين وبين ما يقوله غير المثقفين، والثاني والأهم، لكون التديّن في المجتمع يتشكل بواسطة مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والنفسيّة، وما يكتبه المفكرون ورجال الدين ليس إلا جزءاً صغيراً من العوامل الثقافية.
وأبدى أسفه من اقتصار دارسي الاسلام على التحولات المظهرية بين رافض أو مؤيد لهذه الفكرة أو تلك الممارسة من خلال كتابات المختصين في الدين باعتبارهم ممثلي الحالة المعرفية الإسلامية، في حين أَّن التديّن بالنسبة لأغلب أفراد المجتمع ليس قراراً واعياً بقدر ما هو انسجام مع منظومة ثقافية واجتماعيّة، مستدركاً أنه يُمكن اعتبار بشيء من الحذر أن التدين قراراً فردياً وواعياً فقط بالنسبة لمن يكتب أو يُناقش في التديَّن للنص الديني، ولكن في المقابل لا يُمكن دراسة المجتمعات المسلمة من خلال دراسة مفكريها ورجال دينها.
انتقل المحاضر بالحديث بعد ذلك عن التحول على المستوى الاجتماعي، فقال إنه يُمكن القول بشيء من التجاوز بحصول نوعين أساسيين من التحول العميق في العلاقة مع التدين. الأول هو تحول التديّن إلى هوية، والثاني ظهور التوتر بين المبادئ الدينية وبين الوعي الفردي واصفاً إياه أنه "ظاهرة كونيّة" وأنه نتيجة للتحديث الذي شهدته المجتمعات كافة.
وأضاف أن الدراسات الدينية التي تناولت الحداثة في المجتمعات المسلمة كانت معيارية ورّكزت على "فقه الحداثة والتحديث" والموقف منها فقط، أما المجتمعات الغربية أضافت إلى المعيارية اهتماماً بدراسة وصفيّة عن أثر التحولات في البنى الاجتماعية والمصالح الفرديّة والقيم الجديدة على التديّن، واضعة عدة اجوبة تفسيرية عقلية وفلسفية لهذا التأثير تتفق جميعاً على حدوث تحول عميق وشامل في العلاقة مع الدين وصفه المحاضر بـالتوتر بين المبادئ الدينية وبين الوعي الفردي، مؤكدا عدم وجود دراسات كافية عن هذه العوامل في المجتمعات المسلمة.
وفي مقاربته لمسألة تحولات التديّن في السعودية، أوضح حميد الدين أنها مشابهة للعوامل التي أثرت على التديَّن في مجتمعات أخرى، مشيراً إلى تمايزات مهمة في طريقة تمظهر التدين في السعودية، حيث أنه بسبب الضغوط الاجتماعية فإن الفرد السعودي قد يتغيّر بشكل فردي ولكن يرفض التغيير بشكل علني أو على المستوى الاجتماعي، مؤكداً أنه لا توجد دراسات كافية لفهم هذه الظاهرة، مبدياً تفسيره لهذه الازدواجية بأن المجتمع السعودي عامة لا زال يرى أن الدين هو الضامن الأساسي لتماسك النسيج الاجتماعي للسعوديين، فيتقبل المخالفات الدينية الفردية ولكن بشرط أن لا تؤثر على النسيج الاجتماعي أو الهويّة، وهذا قد يفسر ردود الفعل القاسية التي يتخذها بعض الأفراد - حتى غير المتدينين - ضد من يُشهرون مخالفات دينية.
وأوضح أنه قد تستمر هذه الظاهرة إلى حين تُصبح الهوية الوطنية مصدر تماسك النسيج الاجتماعي.
بعد ذلك عرض المحاضر مؤشرات تعكس حصول تحولات متعددة على المستوى الظاهري، كبعض التغريدات المنتقدة لبعض المظاهر الدينية السائدة، وأخرى تؤكد على مرجعية الفرد في معرفة القضايا الدينية وانتقاد فكرة سد الذرائع، وانتقاد التقلبات في الفتاوى.
ومن الشواهد أيضاً، وجود مقارنات بين علماء الدين وعلماء الطبيعة، والجدل حول فقه المرأة وانتقاد بعض ما يُعد ثابتاً فيه، وانتقاد التركيز على قضايا المرأة وإهمال القضايا الاجتماعية والاقتصادية الكبرى كالفقر والفساد والبطالة.
ولفت النظر إلى أن هذه التغريدات لم تُكتب انطلاقاً من موقف علمي وإنما من مواقف شخصية مما تعكس توتراً بين نص ديني وطريقة تفكير شخصية، مدللاً على ذلك أن بعض من يناقش القضايا الدينية لا يميز بين القرآن وبين الحديث، مؤكدا بأن ما ذكر من التحولات لا تعني بالضرورة رفض التدين أو الإسلام وإنما هي مؤشر لتحول في العلاقة وفي المعيار.
بدأت المداخلات بمشاركة نادر البراهيم معلقاً على فكرة التوتر مع التدين قد يرجع لوجود تناقضات فكرية معينة محملاً المثقف المتدين مسئولية ذلك، واستبعد صالح عمير في مداخلته دقة ما ذهب اليه المحاضر في ربط التدين بالمصلحة السياسية.
واكدت رجاء البو علي على حساسية مسألة وجود التوتر في العلاقة مع التدين وانعكاساتها الاجتماعية وأن البحوث في هذا الجانب ينبغي أن تتوصل لمعالجات صحيحة حيث لا يكفي الجانب التظيري فقط.
وتحدث هاشم الصالح عن تأثر التدين بثقافة المجتمع وان بعض الممارسات هي عادات اجتماعية أخذت طابع القداسة الدينية، مؤكدا أن دور الدين يتركز في تحديد الاطار العام لتشكيل حياة الانسان.
فيما انتقد فؤاد المرهون نماذج من التحولات الفردية لبعض الشخصيات باعتبار أنهم أخذوا زاوية محددة وجعلوها مصدرا لهم، مرجعاً خلفيتها بأنها قائمة على القراءة الانتقائية للتاريخ والدين.
أما منصور آل سلاط فقد أرجع الانتكاسة في العلاقة مع التدين لعدم القدرة على استيعاب الحداثة مفهوماً وممارسة، وتساءل المحامي خليل الذيابي عن سبب ايمان السواد الأعظم بالمسلمات العامة وعدم تفكيك الخطاب.
كما عبر عبيد الشمري عن دهشته للاضطراب في التدين والصراع على الهوية الدينية في المنطقة العربية دون الشعوب الاسلامية الأخرى مرجعا ذلك إلى الخلل الحاصل في عدد من المفاهيم الدينية، وذكر حسن جميعان بأن الأخلاق عابرة للطوائف والأديان، متسائلاً عن سبب السلوك الفظ والمتشنج لدى بعض المتدينين العرب والذي قد يكون راجعاً لخلل ثقافي اجتماعي. واختتمت المداخلات بتعقيب راعي المنتدى جعفر الشايب حول أهمية توفر دراسات وابحاث معمقة حول تأثير التدين على الأوساط الاجتماعية للمسلمين، مبدياً استغرابه من قلة اهتمام الجامعات ومراكز الأبحاث العربية بهذا الجانب، مقدراً من جهة أخرى مستوى الدراسة التي قدمها الدكتور حميد الدين لهذا الموضوع ونتائجها.