غاستون باشلار. فيلسوف فرنسي عاش 78 سنة. عندما وُلِدَ في العام 1884م كان قد مضى على اندلاع الثورة الأميركية 111 عاماً وعلى الثورة الفرنسية 95 عاماً وعلى الثورة الصناعية في بريطانيا 36 عاماً ما يعني أن الرجعية في أوروبا بدأت تترنح أمام موجة التغيير السياسي، الذي تبعه تغيُّر في الأفكار وأفق الناس، بعد أن هيمنت أفكار الثورات الثلاث على غالبية الأراضي الحية في العالم.
وعندما توفي باشلار في العام 1962م كان العالم قد انشطر إلى سماطين، بدأت خلافاتهما فلسفية فكرية بشأن الإنتاج ورأس المال والقضايا الاجتماعية، ما لبث أن تحوَّلت إلى خلافات سياسية أدخلت العالم كله في أحلاف تتهارش فيما بينها. لذلك كانت حياة باشلار مقسومة على أهم حقبتين عرفتهما البشرية منذ القرن الثاني عشر، وهو ما أثر على أفكاره كثيراً. دعونا نتحدث عن هذا الرجل بصورة مختلفة.
فباشلار يعتبر رائداً فيما عُرِفَ بالمذهب الظاهري والعقلانية التطبيقية. وقد سمَّى ذلك لأحد كتبه المهمة، الذي دوَّن فيه رؤيته للفلسفة المتحاورة والعقلانية في المستويين المتعلِّم والمتعلَّم وتعاقبيتها مع مراقبة النفس وعناوين كثيرة. وقد قضى شطراً من حياته في التدريس الأكاديمي وكان فيه مُكرِّساً لحقيقة الوجود الحقيقي للظواهر وإنكار جوهرها المادي وما يترتب عليه من آثار.
وكان باشلار في أغلب ما تناوله من أفكار متميزاً بقوة الحجّة والأفق الرحب. لكن كل تلك المكانة العلمية والآراء القوية التي أثرت في مسيرة أوروبا الفكرية لم تكن لتساوي شيئاً لو لم يكن يتمتع بشيء لافت في سلوكه الشخصي ألا وهو التواضع. وربما يسود اعتقاد لدي بأن مسألة التواضع قد انعكست على باشلار وتحديداً في إيمانه الفلسفي الذي يقوم على رؤيته للأشياء والتي كان يقول بشأنها أنه ليست هناك حقائق أولى؛ وإنما أخطاء أولى كون البشر هم خارج التفكير في هذه العتبة.
استمعت لمقابلة نادرة لباشلار والشِّيْبُ قد غزا وجهه بالكامل ولحيته قد تدلّت أمام رقبته. قال له محاوره: هل أنتَ مهتم بأن أدعوك بسيد؟ ردَّ بانفعال: «لا أبداً على الإطلاق. نادني غاستون باشلار أو باشلار وليس أكثر ولا حتى بروفيسور بلا مزاح! انتهى. أنا رجل حر تماماً». ثم سأله: هل هناك تعريف ممكن للفيلسوف؟ ردّ باشلار: «لقد اعتدتُ أن أقدِّم تعريفاً للفيلسوف عندما كنتُ أدرِّس ولكني أضعته الآن» وكأنه يتهرّب من تكريس هذا النعت على نفسه أو حتى على غيره.
سأله المحاور مرة أخرى: هل الفيلسوف أعلى من البشر؟ قال باشلار: «لا ... إنه ليس إلهاً. لا يوجد إنسان أعلى. أنا لستُ مؤمناً بالهيراركية (التفاوت في المراتب). أنا لا أفهم كيف يمكن لأحد أن يقارن نفسه بالآخرين». ثم سأله: هل الفيلسوف يعرف كيف يعيش أفضل من الآخرين؟ أجابه باشلار: «لا يمنعني شيء من العيش كأي مواطن، رجل عائلة أو موظف في وظيفة. أنتَ تريد أن تحصرني في صورة الفيلسوف الذي يعيش أحلامه بعيداً عن صعوبات الحياة. أنا أذهب إلى الجزار وأختار ما أريد. لم أشعر يوماً بالحرج من الحياة اليومية. لقد كنتُ أقوم بدراساتي في معمل صغير».
ما قاله هذا الفيلسوف مؤثر جداً. نعم هو قال ما يجب قوله لكن يصبح أمراً مقدراً في ظل ما نراه من نزعات سلوكية غريبة لدى بعض ممن حسبوا أنفسهم أصحاب علم ودراية تقوم على التكبر والغرور والتعالي على الناس، وتحاشيهم العيش في الحياة العامة كما يعيشها الآخرون.
إن المعركة مع النفس والغرور من أكثر المعارك ضراوة. فالمرء الذي يذهب في طلب العلم يبرز له الغرور عند كل ساعة ليصوِّر له أن المنتهى هو ما وصل إليه. وكان بن باديس رحمه الله يقول «إن من آفات العلم اغترار صاحبه به، وقد يتمادى به الغرور حتى يُسوَّل له أن ما أوتيه من العلم كافٍ في وقايته من الأضرار، ونجاته من الأشرار». ولأنه يصل إلى هذا المستوى فإنه لا يرى في غيره سوى النقص والقليل.
وهناك عبارة جميلة ذكرها أبونصر تاج الدِّين السّبكي في طبقات الشافعية الكبرى أن «المغرور من اغترَّ بعقله فظنَّ أن ما هو مُنتَفٍ عن علمه فهو مُنتَفٍ في نفسه». وهو تعبير له مصاديق حقيقية على الأرض. فـ «بعض» الناس وتحديداً من أهل العلم والثقافة مصاب بذلك الداء.
لو تأملنا في عالمنا سنجد أننا لا نساوي حيزاً يُذكر في مساحة تزيد عن الـ 510 ملايين كم هي مجموع أرضنا. فهذه الأرض الشاسعة من الأكيد أن «كل» تفاصيلها لم يصل إليها الإنسان بعد. لقد تفاجأنا وبعد سقوط الطائرة الماليزية بوينغ 777 في مارس 2014م بأن فرق البحث عن حطام الطائرة قد وصلت إلى نقطة لم يصلها المكتشفون من قبل في أقصى جنوب المحيط الهندي.
ولا يبدو عدم إدراك كل الأشياء بعيداً عن الأذهان ومنطق الأشياء في أمور أخرى مماثلة مع وجود 7000 لغة يلوكها أزيد من 7 مليارات إنسان بعضها منطوق فقط، ومع وجود غوامض 356 قومية و19 ديانة أساسية. فالعقل يؤكد محدودية مداركنا مهما بلغ اتساعها أن تصل إلى تفاصل تلك التفريعات اللغوية والتواصلية والقومية والدينية. أختم ببيتِ شعرٍ لأبي نواس يقول فيه: فقل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً ... جهلتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5353 - الأربعاء 03 مايو 2017م الموافق 07 شعبان 1438هـ
أحياناً فيلسوف
وأحياناً أكون متفلسف
ما لفضل لأهل العلم أنـــهم..على الهدى لمن استــهدى أدلاء.
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه..والجاهلون لأهل العلـــــم أعــــداء.
فقم بعلم ولا تطلــــب به بدلا..فالناس موتى وأهــــل العـــلم أحياء.
انا
حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
جاء هذا البيت على صور مختلفة ومنها : حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ .. لكن الشاعر العباسي ابن وكيع الضبي في المنصف ذكرها : جهلت شيئاً وغابت عنك أشياء كما ذكره الكاتب في المقال .
رحم الله باشلار والسّبكي