لابد من وضع الإصلاحات التركية التي تم التصويت عليها منذ أيام في إطارها التاريخي، فتركيا بحاجة لإصلاحات جدية في الهرم السياسي، فالمعروف عن تركيا أنها دولة اللاقرار، فلا رئيس الوزراء ولا الرئيس قادر على صنع القرار أو إقرار قانون بسهولة ويسر، فالقرار التركي الحكومي بيروقراطي وبطيء، كما أن القوانين التركية تأخذ زمناً طويلاً يتجاوز العام لعام ونصف ليتم إقرارها من خلال البرلمان، إن تركيا في هذا المجال متأخرة عن العالم.
لهذا فالإصلاحات ضرورية ومهمة لتطوير النظام السياسي التركي. لكن الخلاف على الإصلاحات ارتبط بمدى تحيزها لمنصب الرئيس وبمدى تقليلها من قيم يجد قطاع كبير من الرأي العام التركي بأنها ستؤثر على الحريات.
وقد تم التصويت على التعديلات الدستورية التي وافق عليها البرلمان يوم 16 أبريل/ نيسان العام 2017، وانتهى بالموافقة الشعبية على الإصلاحات لكن بنسبة لم تتجاوز 51 في المئة.
الإصلاحات الجديدة تقدم للرئيس صلاحيات كبرى، وتلغي موقع رئيس الوزراء، وتسمح للرئيس بدورتين تبدأ الأولى مع العام 2019 ومدة كل منها خمس سنوات. وستضع الإصلاحات الجيش والقوات المسلحة كاملة تحت سلطة الرئيس، في هذا سيتحول النظام التركي لنظام رئاسي، يمتلك رئيسه صلاحيات مؤثرة كتلك التي يمتلكها الكثير من الرؤساء في الأنظمة الرئاسية السائدة في أميركا الجنوبية. إن النظام الرئاسي الذي لا يعتمد على تحالف حزبي كالبرلماني الذي يفرز رئيساً للوزراء هو نظام أكثر وضوحاً في صنع القرار والاستقرار عند وقوع الاختلافات. في هذا سيكون النظام التركي أقدر على تلبية متطلبات الحرب والسلام وظروف التغير في تركيا وفي الإقليم العربي المحيط.
لقد تسلل الانقسام بسبب الإصلاحات لكل المجتمع التركي كما وتسلل لصفوف حزب العدالة والتنمية. إن معظم الطبقات الوسطى والمدن الأساسية كإسطنبول وأنقرة وأزمير لم تصوت لصالح التعديلات، بينما الطبقات الشعبية والفقيرة ومناطق الأرياف ومدن الأرياف الصغرى وفقراء المدن أيدت الرئيس أردوغان وإصلاحاته الدستورية. سيكون شبح هذا الانقسام مقلقاً للرئيس أردوغان الذي عليه أن يقوم بالكثير من أجل طمأنة معارضيه وناقديه والبحث عن حلول وسط. وبالفعل كان خطاب أردوغان بعد إعلان النتائج إيجابياً مؤشراً لمدى استيعابه لضرورة الوصول مع الناس لحل وسط بعد إقرار التعديلات. لم يكن خطابه خطاب انتصار، فهو إلى حد ما يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الانقسام الذي ساد المجتمع.
لقد دخلت تركيا في وضع صعب، لكنها كانت في وضع صعب قبل الانقلاب ومع الانقلاب ومنذ عام 2011. الصلاحيات الجديدة للرئيس ستجعله صانع قرار وقادراً على إقرار قوانين مستعجلة في ظل ظروف صعبة، وهذا سيعني بالنسبة للإقليم بأن تركيا ستمتلك قدرة عالية على صنع القرار لمجاراة الدول المحيطة والمؤثرة كروسيا وإيران.
التحديات التي تواجه تركيا في مسألة العنف، والأكراد، وسورية، والتنافس مع إيران وروسيا، وانهيار الدولة في الإقليم العربي، وتوتر العلاقة مع أوروبا بعد رفض أوروبا استيعاب تركيا. كل هذه العناصر وضعت ضغوطاً كبيرة على تركيا، ودفعتها لهذا النوع من الإصلاحات التي ستجعل من تركيا نظاماً رئاسياً عوضاً عن أن يكون برلمانياً يتأثر باتجاهات الأحزاب الحليفة، ففي النظام الرئاسي، كما هو الأميركي يوجد منتصر واحد.
ستبقى القوى التركية الديمقراطية تصارع من أجل صون حقوقها، فالملاحظ بأنه لو قررت قوى المعارضة تحدي الإصلاحات فهي قادرة على مواجهة الرئيس، فحجم معارضة الإصلاحات الراهنة يعطيها القوة ويقدم لها الزخم، وهذا بدوره سيضع ضغوطاً على نظام أردوغان. لذا سيكون لزاماً على أردوغان أن يمارس السياسة من أوسع أبوابها، فيبحث عن حلفاء وتوازنات تتعلق بالحريات والعلاقة مع المعارضة. وسيجد أردوغان أنه مضطر أيضاً لعقد مساومات جديدة مع معارضيه كما ومع الأكراد من أجل تخفيف الحدة وإبقاء مساحة الدعم لصالح الانتخابات القادمة كما ولصالح استقرار الإصلاحات الدستورية والنموذج التركي الجديد.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5347 - الخميس 27 أبريل 2017م الموافق 30 رجب 1438هـ