في الـ 20 من أبريل/ نيسان؛ أي في مثل هذا اليوم وقبل 128 عاماً، وَضَعَت سيدة نمساوية ولداً ذَكَر. كل مَنْ نَظَرَ إلى ذلك الطفل سَحَره جماله. شَعْر ناعم منسدل إلى الأمام، وبشرة صافية يشعّ منها بياض لافت. ووجنتان متورّدتان وعينان ساحرتان. وربما غَلَبَ عليه جمال أمه على هيئة أبيه ألويس الذي لم يكن وجهه ولا تقاطيعه من عينين وحاجبين يدلان على أنه يُضاهي هذا الطفل الوسيم في شيء.
اتفق ألويس وكلارا أن يُسمّيا الطفل أدولف. لا أعرف لماذا اختِيرَ هذا الاسم «القاسي» على ذلك الطفل! فقد جُمِعَ في ذلك اللفظ النقيضان: فكلمة Adel في اللغة الألمانية تعني: النبيل. وكلمة Wolf تعني الذئب. وعندما تضع الكلمة بغير تقطيع في القاموس تظهر لك بالشكل التالي: edler Wolf. وهو تعبير ينطوي على كثير من التضاد. ولو وُضِعَت كلمة: Verbrecher مثلاً والتي تعني بالألمانية: المجرم المتهوّر لكانت أنسَب، كونها صفة تعود للذئب حقاً والذي لم يُعرَف عنه أنه كان نبيلاً في سلوكه. في كل الأحوال كان الطفل أدولف يبدو آنذاك مَجنِياً عليه وهو يُعطَى ذلك الاسم.
في المحصلة ظهر اسم الطفل بتلك الهيئة ليُكتَب كاملاً في شهادة الميلاد: أدولف ألويس هتلر. نعم، لقد كان ذلك الطفل هو الرجل الذي أصبح لاحقاً وبعد 45 عاماً على ولادته فوهرراً وزعيماً لألمانيا النازية بين عامَيْ 1934 – 1945. عندما تُحمِلق في وجه هتلر وهو طفل لا تدعك ملامح وجهه البريء مطلقاً لأن تفكر ولو للحظة أنه سيُصبح مسئولاً عن موت 24 مليون جندي أوروبي وسوفياتي وأميركي (وغيرهم من سكان المستعمرات)، و49 مليون مدني، وعشرات الملايين من الجرحى والمهجّرين والمفقودين، وتهشّم 70 في المئة من اقتصاد أوروبا الصناعي خلال الحرب العالمية الثانية: 1939 – 1945 التي طحنت أجزاء كبيرة من 3 قارات أساسية من العالم القديم.
عندما كنتُ أقرأ يوميات الصحافية الألمانية «مارتا هيلرس» التي عنونتها بـ : «امرأة في برلين... 8 أسابيع في مدينة محتلة»، وهي التي عاينت احتلال الجيش السوفياتي للعاصمة الألمانية برلين، بعد هزيمة الرايخ الثالث كنتُ أقف على شعور الألمان تجاه ما جرى لهم، وبالتالي مشاعرهم نحو زعيمهم هتلر، الذي عجزت الاستخبارات الغربية لغاية العام 1944 عن اختراق شعبيته بين شعبه بهدف تثويرهم «برتقالياً» ضده، إلاّ أن هذا الشعور تبدَّل بعد أن انتهى كل شيء لدى الألمان.
في أحد أسطر يوميات مارتا كانت تشير إلى موقف الألمان العنيد من أن يُغيِّروا موقفهم من الزعيم الذي بنى اقتصاد ألمانيا وصناعتها، وأقام السدود والجسور وحفر الأنفاق ورَصَفَ الشوارع ومدّ سكك الحديد وعبَّد الطرق وزرع القمح وأعاد هيبة ألمانيا بعد أن استُبِيحَت في قاعة المرايا بقصر فرساي شمال فرنسا. لكن كل تلك المشاعر القومية لم تمنع هيلرس لأن تتمنى لو أن كلارا والدة هتلر أجهَضَت حملها قبل أن يأتي طفلها «الذئب النبيل» إلى الحياة ليفعل ما فعل بهم.
كانت تقول: «آخ، كم كنا سنكون محظوظين لو كان قد أُجهِض» وهي العبارة التي أصبحت نكتة بين الألمان في تلك الساعات الصعبة. وعندما جاء الروسي ذو الخدَّين الورديَّيْن وهو يتمشَّى بين الألمان المدنيين ويعزف على الأكوردين صارخاً في وجوههم: «گيتلر كابوت، گبلز كابوت، ستالين گوت» أي «يسقط هتلر، يسقط گبلز، يعيش ستالين» كما تذكر ذلك في اليوميات، لم تكن تلك الشعارات لتستفز أحداً من الألمان في تلك اللحظة، وهم قابعون في المخابئ تجنباً للقصف الأعمى.
وعندما كان الرجل العجوز زيگزموند يقول لهم بأن الفوهرر «يعرف جيداً ماذا يفعل»، لذلك وبالتالي فإن النصر قريب، كان الحاضرون من الألمان «ينظرون إلى بعضهم بصمت». ولم يكن هناك مَنْ «يميل إلى مناقشته» وهو في نظرهم «مجنون». هكذا كانت تروي.
القائد أو الرئيس أو الزعيم أو الحاكم هو في ذاته رمز للوطن، كون شخصيته تختزل كل هيبة الدولة ورموزها وسلطاتها وشرعيتها. لذلك تصبح المعركة الأساس في ذلك هو زيادة هامش القبول لدى الناس بشخص زعيمهم؛ لأن في ذلك استقرار لكل شيء على المدى البعيد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. لكن كثيرين يعبثون بتلك المعادلة فينقلب عاليها سافلها لتدخل الأوطان في التيه، ليصبح من الواجب تصحيح الصورة عبر تعديل كل ما سبَّبَ ذلك الخلل في القبول به.
كان الألمان يطمحون إلى استعادة الشعور بانتمائهم إلى وطنهم ألمانيا مهد الفلسفة والصناعة بعد أن دمّره الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، لكنهم أيضاً لم يرغبوا في أن تأخذهم تلك الاستعادة إلى المجهول. استطاع هتلر أن يمنحهم كثيراً ما فقدوه ما بين عامي 1918 و1932 لكنه وفي بحر عقد فقط دمَّر كل تلك الإنجازات بإصراره على الانتقام من أوروبا كلها، وجزء مهم من آسيا تحت دواعي عنصرية تتعلق بالتمييز على أساس العِرق، دون أن يدرك عواقب ذلك. هكذا تحوَّل هذا الرجل من مُلهِمٍ لشعبه كما كانوا يرون فيه إلى رجل مغرور، تُحرِّكه نوازع ذئبيّة بعيدة عن النُبل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5339 - الأربعاء 19 أبريل 2017م الموافق 22 رجب 1438هـ
بإصراره على الانتقام من أوروبا كلها، وجزء مهم من آسيا تحت دواعي عنصرية تتعلق بالتمييز على أساس العِرق، دون أن يدرك عواقب ذلك.
...
قصة تاريخية مأساوية
أتفق معك بأن الاخلال بمعادلة القائد الرمز لسيادة البلد تؤدي الى الويلات.
ولكن
لا تنسى بأن الفوهور كان يصد مؤامرات على المانيا لم تتوقف من الخارج (فرنسا وروسيا) ومن الداخل (الطابور الخامس)
ولو كنت أنت مكانه لدعت عليك "مارتا" لأنك كنت ستفعل نفس فعل الفوهور