كان جالساً على كرسي المطعم، يتحرك بارتباك، يتشاغل عن النظر إلى عينيها بترتيب السفرة، واستقامة الشوكة والملعقة، ثم شحذ عزيمته وقرر أخيراً، بعد كتمان دام عاماً كاملاً من الترقب والمحاولة والتراجع، يقوده فيها الخوف والرجاء.
ظل يتأمل جمال حركتها الناعمة وهو يقول في نفسه هل يمكن أن تكون هذه بكل كيانها لي أنا؟ تشاركني كلي وساعات أيامي وأفكاري الجيدة والسيئة؟ كانت هذه الأسئلة تدور في رأسه بينما هي مشغولة بفرد منديل المائدة على حجرها وتأمل قائمة الطعام لتختار طبقاً صحياً له طعم جيد. استجمع قواه وقال:
- هل تقبلين الزواج بي؟
رفعت رأسها وحدّقت به لنصف دقيقة بملامح هادئة، ثم أغضت ووضعت قائمة الطعام جانباً وأسندت مرفقيها على الطاولة وقالت بصوتها المحبب المتزن بعدما أخذت نفساً عميقاً:
- أوه يا عزيزي... دعني أسرد عليك قصة:
في مكان ما خارج العالم، كان الموظف المسئول عن إعادة تعبئة الموتى الجدد مرهقاً، فقد كان عددهم في ذلك اليوم كثيراً، حيث حصد انهيار سد في الصين واحتراق غابات في شمال أوروبا وحادث قطارين في كراتشي العدد الأكبر، بالإضافة إلى أعداد قليلة متفرقة في أنحاء شتى من العالم. لقد كان يوماً مأساوياً بامتياز لمن ينظر عبر السماء أو لمن يتابع آخر الأخبار على شاشات التلفزيون.
كان الموظف مرهقاً وغير قادر على التركيز حيث لم يشرب قهوته الصباحية، لم يجد وقتاً لإعدادها فقد جاء إلى العمل متأخراً لأنه لم يعثر على جناحيه إلا بعد جهد جهيد. ابنه البكر كان قد سرقهما ليلهو في الليلة السابقة مستغلاً غياب والدته التي وضعت للتو مولوداً جديداً. بعدما قضى الصغير متعته باللعب قرر إرجاع الجناحين لكنه لم يتذكر من أين كان قد أخذهما... فقرر أن يضعهما - أو يخبئهما - تحت سرير والده.
تكاثرت الأرواح على مكتب الموظف في انتظار أن يضع كل واحدة في علبة جديدة لتشحن مرة أخرى إلى العالم. لكن الأمر لن يكون بهذه البساطة، عليه أولاً أن يصنف الأرواح بحسب قانون الكارما، كل روح قد اختارت علبتها الجديدة بحسب ما اقترفت يداها.
ولأن الموظف كان مرهقاً، علاوة على أن ضوء مكتبه كان خافتاً، سقطت سلة العلب من يده مرتين أثناء نقلها إلى أعلى الدولاب... في تلك اللحظة لم ينتبه الموظف أنه بدّل علبة بأخرى. العلبة التي قطعت شوطاً طويلاً في التطهر كان من المفترض أن تنجو من سلسلة التناسخ، وتنتقل إلى الديفا، كان من المقرر أن يكون ذاك هو تجسدها الأخير في العالم. لكنه بدلها دون قصد بعلبة أخرى... كان صاحبها في حياته السابقة سكّيراً قتل رجلين أثناء مشاجرة على الطريق... وتعوّد ضرب زوجته لينفس غضبه... بالإضافة إلى رغبته التي لا تشبع تجاه الطعام.
تلك العلبة هي أنا... حياتي الحالية، أعيش الآن قدراً عصيباً... كارما أعمال ذلك الرجل جاءت بي إلى هذا المنتهى... أنا مدمنة حلويات جراء رغبته الجموح، سريعة الغضب ومزاجية بسبب سكره، كما أنني - وهذا هو المهم - كلما هممت بأمر تعذر لسبب أو لآخر... تعذر وامتنع تماماً... هل وصلك الجواب؟
والآن قل لي... ما الطبق الذي ستتناوله؟
خيال واسع وفريد من نوعه. أعجبتني ونقلتني للعالم الذي كانت فيه العلب.. لغة عذبة وقصة جميلة جدا..