كانت القرود ذات حضارة عريقة ضاربة في جذور التاريخ، أقامت المعابد وشيَّدت القصور والقِلاع والحُصون، وخاضت المعارك والحروب لتصنع مجداً يُخلده التاريخ.
عاشت القرود حياة كريمة، يعرف كل قرد فيها حقوقه وواجباته من خلال قانون يحكم الجميع، لا يعفي أحداً من المسئولية تجاه مجتمع القرود الفاضل.
وكان برلمان القرود يناقش قضاياهم ويحاسب المقصِّرين ممن تسوِّل لهم أنفسُهم أن يتلاعبوا بمصالح الأوطان.
كانوا ينظرون إلى البشر نظرة استعلاء وغرور، حيث كان البشر مجتمعاً همجياً لا يعرف شيئاً عن الحضارة والمدنية، يعيشون بلا قيود أو حدود في الغابات وأعالي الجبال والتلال، ولطالما أخذت القرودُ بعضاً من أولئك البشر لوضعهم في أقفاص من الحديد للتسلية واللعب، أو الفكاهة والسخرية من هذه المخلوقات الغريبة التي لا يحكمها قانون أو يسودها نظام.
ولكنّ القـرود يوماً بعد يوم أصابها الضّجر والملل من هذه الحياة الرتيبة والمملة، وشعر مجتمع القرود أنـّه فقد فطرته التي خلقه الله عليها حرَّاً طليقاً، وضاق ذرعاً بهذه القيود وتلك القوانين التي تحدُّ من حرياتهم وتشعرهم بالمسئولية في حركاتهم وسكناتهم، فقد استعبدتهم الحياة فصاروا كالقشة التي يجرفها النهر كيفما شاء.
كانت القرود تشعر بالأسي والحزن رغم كل الأنظمة التي وضعتها لتكون حياتها أكثر سعادة وبهجة.
فقررت القرود أن تثور!
ثارت القرود على كل شيء يقيّد حريتها، قررت أن تعود إلى طبيعتها وتسترد حريتها وفطرتها من حياة العبودية التي كبّلوا بها أنفسهم فاصبحوا عبيداً لحياة مملة وبغيضة.
قتلت القرود حاكمها المتحضِّر السيد (غوريلا) وألـْقت بهِ في النّهـر، ثم انطلقت في الغابات والبراري والسهول والوديان، وعاشت على سجيتها حرّة طليقة تفعل ما تشاء وقتما تشاء، حيث لا قانون يُقيِّد حريتها ولا نظام تخشى اختراقه.
تنفست القرود الصُّعداء ولأول مرة تشتم نسيم الحرية وتشعر بعنفوان الحياة يدب في أوصالها، لتقفز هنا وهناك من شجرة لأخرى ومن جبل إلى جبل، يعيش كل قرد حياته كما شاء حيث لا حدود ولا قيود، بل أرضُ شاسعة سقفها السماء، وسهول وغابات تحضنهم كأم حنون عادوا إليها بعد غربة طويلة.
قررت القرود أن تطْردَ البشر من الغابات والوديان والسهول، حيث لا مكان لهم وسط مجتمع القرود القوية العائدة إلى أرضها بقوة، حيث لا مكان للضعفاء في أرض القرود.
خرج الآدميون يبحثون عن مأوى لهم بعد أن طردتهم القرود، فانقلبت حياتهم رأساً على عَقِب، فكان حتماً عليهم أن يعملوا ليجدوا قوت يومهم، ويلبسوا الملابس الحضارية كالحذاء والبنطال، والتزموا بمواعيد العمل وارتباطاته اليومية، وصارت لهم المجالس والبرلمانات التي تنظم حياتهم.
فصار فيهم الغني والفقير، والقوي والضعيف، وانتشر بينهم الحقد والحسد وامتلأت القلوب بالأسقام والعلل، وتنافسوا فتباغضوا فانتشرت بينهم الحروب والمعارك، وصار كلُ منهم يبحث عن سلاح فتـَّاك ليقضي به على الآخر.
واحتكر بعضهم الغذاء ليجوع البعض الآخر، وامتلك بعضهم قنابل ذرية يهدّد بها ويتوعد، وانتشرت الأمراض المصطنعة ليُسوِّقوا أدويتهم وأمْصالهم لِجني المال، وصارت النساء سلعة رخيصة لمن يشتري، بينما كان الأطفال ضحية لهذا المجتمع الحضاري!
صارت الطيبة غباء والمكر ذكاء، أصبح الإنسان مسْخاً تسكنه الشياطين وتقوده الأشباح ينتظر المُخلِّص كي يُحرّر روحه من هذا العناء.
يحـْدث هذا كله في عالم البشر المتحضّـِر!
بينما كانت القـرودُ تنظر وتراقب ساخرةً مستهزئة، سعيدة بحياتها بعد أن نزعت عن أعناقها طوق العبودية وعادت لفطرتها النقية، تعلم الإنسانية معاني الحب والرحمة والعدل والتسامح.
ما شاء الله ابا المعتصم.
اكثر من رائعة
حاجة حلوة وجميلة خالص يا ستاذ محمود وننتظر منك المزيد
رائع
رائعة ... مثيرة للأهتمام
قصة قصيرة تبشر بولادة أديب جديد في عالم القصص والروايات الادبية بأسلوب سهل ورشيق ولغة محترمة مختومة بخاتم الموهبة فمرحبا
إبداع من نوع جديد .. أكثر من رااااااااائع