يبدو أن تنظيم «داعش» يتجه إلى نهاياته، بعد أن تم تحرير معظم المحافظات العراقية منه، ولم يتبق تحت سيطرته سوى النزر اليسير. كما أنه خسر الكثير من مواقعه على الأراضي السورية. وقد جاء ذلك بعد اتفاق دولي على شطب ما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وكان البرنامج الانتخابي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تعهد بالقضاء على التنظيمات الإرهابية، المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط، خلال عام من تسلّمه سدة الرئاسة.
هل سنشهد حقاً نهاية للتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش» من المنطقة بأسرها؟ وهل ستكون الحرب بمفردها وسيلة للقضاء على الإرهاب؟ ونحن نعلم أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، احتلت أفغانستان تحت ذريعة إلحاق الهزيمة بتنظيمي «القاعدة» و»طالبان». وقد تمكنت من تحقيق ضربات موجعة بالتنظيمين، لكن ذلك لم يلحق الهزيمة النهائية بهما. وتمكن التنظيمان بعد فترة وجيزة من النهوض مجدداً، ليمتد الإرهاب بقوة، إلى الجارة باكستان، ثم يتأسس تنظيم «الدولة الإسلامية»، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي في العراق، كرد فعل على احتلال بلاد الرشيد، وليتوسع لاحقاً فيحتل أراض واسعة من سورية.
واقع الحال يشي بأنه، باستثناء تجربة طالبان في أفغانستان، وتجربة تنظيم «داعش» في العراق وسورية، اعتمدت التنظيمات الإرهابية منهج حرب العصابات الذي يقوم على المناورة وسياسة «اضرب واهرب»، وعدم الاحتفاظ بالأرض. وكان الانتقال من شعار اضرب واهرب، لتأسيس سلطة مفهوماً في أفغانستان، حيث لم تكن الحرب آنذاك، بين طالبان وبين أية قوة كبرى، أو قوة إقليمية، بل كان بين تنظيمات إسلامية متشددة متناحرة، يسعى كل منها لتحسين أوراقه، واكتساب المزيد من الأراضي.
وقد وجد الكثير من الدول المجاورة، والقوى الإقليمية والدولية، في استيلاء طالبان على السلطة، في حينه عامل استقرار، وتوحيد للبلد المتشظّي. ولم يتغيّر ذلك إلا بعد حوادث 11 سبتمبر، في نيويورك وواشنطن، التي تبنى تنفيذها تنظيم «القاعدة».
آنذاك، طالبت إدارة الرئيس بوش، حكومة طالبان بتسليم أسامة بن لادن زعيم القاعدة، وعدم تمكين الأخير من استخدام أفغانستان، كمقر لقيادة تنظيمه. لكن طالبان رفضت تسليم ابن لادن، لتنقلب الأمور رأساً على عقب، ولتعلن الإدارة الأميركية، حربها العالمية على الإرهاب، متخذة من أفغانستان محطة أولى في هذه الحرب. لكن الضربات الصاعقة التي نفذتها القيادة الأميركية في أفغانستان لم تودِ بتنظيمي طالبان والقاعدة، ولم تقضِ على نشاطهما للأبد.
في العراق، انبثقت المقاومة العراقية في اليوم التالي للاحتلال الأميركي لبغداد. وكانت نقطة ضعفها أنها لم تكن موحدة، وأنها جوبهت بمواجهة ضارية من قبل الأميركيين. ومع كل نقاط الضعف هذه تمكنت المقاومة العراقية، من إلحاق ضربات قاسية بقوات الاحتلال، وأرغمت الأميركيين على التفكير جدياً في الانسحاب. وكان قرار الرئيس أوباما التاريخي بالانسحاب التام من العراق، هو نقطة التحوّل، في مجرى المواجهة بين الحركات المسلحة وبين الحكومة التي خلفها الاحتلال.
احتضن العراقيون في محافظات الأنبار، وصلاح الدين، وديالى، ونينوى، عسكريون ومدنيون وشيوخ عشائر، التنظيمات المعادية للاحتلال، وكان ذلك في حقيقته، دفاعاً عن النفس. لكن مجيء تنظيم «داعش» وسلوكه المشين، المتمثل في الاعتداء على الأعراض والحرمات، واستعادة فكرة السبي، بالنسبة للمسيحيين والأزيديين، غيّر صورة المشهد، وأوجد مناخاً جديداَ، في المحافظات الأربع التي أشرنا إليها، يتسم بالكراهية، والنفور من هذا السلوك المعادي للطبيعة الإنسانية، ولحقّ البشر في الحياة والعيش الكريم.
وجاء خريف الغضب، قبل ست سنوات، ليشكل فرصة ذهبية للتنظيمات الإرهابية، حيث تعزز وجودها مجدداً في العراق وسورية وليبيا واليمن، وفي بعض المواقع الإفريقية. وقد تحوّل الإرهاب إلى تهديد عملي للعالم بأسره، بعد أن قام تنظيم «داعش» بتنفيذ عمليات واسعة في باكستان وإندونيسيا، وتركيا، وروسيا، وفي عدد من الدول الأوروبية، وفي معظم الأقطار العربية.
بات وضع «داعش» أكثر حرجاً في الأيام الأخيرة، في كل من العراق وسورية. ويبدو أن ثمة تحالفاً لدول الجوار مسنداً بدعم دولي بدأ يتشكّل لمحاربة الإرهاب في ليبيا. إن المتوقع في الأيام المقبلة ألا تكون هناك مواقع باسم «الدولة الإسلامية»، وأن تندحر قوات «داعش» في البلدين.
إن ذلك سيكون نهايةً لتنظيم «داعش»، ولكنه لن يكون نهاية للإرهاب. سيعود مجدداً منطق حرب العصابات في الدول التي ينهزم فيها الإرهاب، كقوة مسيطرة على الأرض، ويعود للنمط القديم من عمليات الإرهاب حضوره، وقوته.
لن تكون هناك مناطق يتحشد فيها الإرهابيون، ولن تتواجد قواعد آمنة، أو حواضن اجتماعية يمكنهم استثمارها. ذلك يعني أن الحرب ضد الإرهاب ستكون أكثر صعوبة مما هي عليه الآن. فالحرب على الإرهاب التي جرت بتوافقات دولية في كل من سورية والعراق، كانت تتجه إلى عدو معروف، في سماء مفتوحة، وفي جغرافيا معروفة. أما في ظل حرب العصابات فستكون الحرب ضد أشباح. وسيقتضي الأمر، ربما سنوات طويلة ليتم القضاء المبرم على هذه التنظيمات.
هناك احتمال نهوض جديد لعمليات القاعدة، وتراجع لدور «داعش». وذلك يعود إلى أن تنظيم «القاعدة» بقي متمسكاً بأطر علم العصابات، ولم يحِد عنه. فهو لم يؤسس دولة في أي مكان. ووضعه في سورية، مع جبهة النصرة هو وضع خاص، حيث تقاسمت سورية تنظيمات إرهابية من كل لون. والعودة مجدداً لحرب العصابات هو انتصار لفكر «القاعدة» على فكر «داعش».
الاحتمال الثاني، هو أن كثيراً من أعضاء «داعش»، سيتمكنون من الفرار بعد هزيمتهم، في العراق وسورية، وسيتجهون إلى اليمن وليبيا، بسبب الأوضاع غير المستقرة في البلدين الشقيقين، بما يشكّل بيئة مثالية لتحركاتهم، ومنها يخططون للتسلل إلى البلدان المجاورة. وذلك ما يضيف أعباء جديدة على استراتيجية الحرب على الإرهاب.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5333 - الخميس 13 أبريل 2017م الموافق 16 رجب 1438هـ