لعل من نافلة القول بأن الحكّام الدكتاتوريين في العالم كله لا يعرفون شيئاً اسمه «خط أحمر» في قواميسهم أو أعرافهم لحظة مواجهتهم الخيار بين كراسيهم وبين الحفاظ على أوطانهم وسلامة شعوبهم حيث تغليبهم دائماً وأبداً الخيار الأول، وهم بهذا لا يتورعون ألبتة عن ارتكاب أي شكل من جرائم الإبادة البشرية سواء بحق شعوبهم أم بحق المعارضة السياسية، سلمية أكانت أم عسكرية. وبهذه البديهية التي برهّن عليها بقوة تاريخنا العربي الحديث المؤلم في محطات ونماذج كثيرة، ومازال يبرهن عليها نظام الأسد، الأب والابن، ليس استثناءً في التورع عن ارتكاب جريمة حرب شنعاء من تلك الجرائم، ومهما تنطلي خلف شعاراته «الوطنية» و»القومية» المُستهلكة المتقادمة، والتي أكل الدهر عليها وشرب، فإنها لا تُحجب جوهر الصراع الذي يخوضه، فمعركة الأسد الابن الدائرة التي ما فتئ يخوضها منذ قمعه ربيع شعبه العام 2011 إنما يخوضها في المقام الأول دفاعاً عن كُرسي الحُكم الذي يتشبث به بكل أنيابه، والذي ورثه عن أبيه في عاصمة عربية، هي أول من أرست في تاريخنا العربي هذا النمط من السلطة، المكروه شعبياً، وحوّلتها إلى حكم عضوض، وبالتالي يخدع نفسه كل من يتوهم عن حُسن نية بأنه يخوض معركةً مقدسة دفاعاً عن وطنه وسلامة شعبه باسم تلك الشعارات، وإنْ تسبب خياره الدموي لقمع ربيع شعبه في كل هذه المآلات الكارثية المأساوية المعروفة، والتي أفضت بدورها إلى تفتيت شعبه ووطنه، وهو متورط أيضاً في هذا التفتيت وفق سياسة «فرّق تسد» وما برحنا نتابع فصول نزيفها الدامي أنهاراً أنهاراً، بعد أن أضحت قضية شعبه رهناً للتدخلات الاقليمية والدولية المفتوحة، مُتخذةً من الساحة السورية ملعباً مكشوفاً لصراع المصالح والإرادات وتصفية الحسابات فيما بينها.
وبهذه المعاني، فإن الأسد الابن هو المسئول الأول عن ضرب شعبه في الغوطة بالسلاح الكيماوي صيف 2013، سواء ارتكبه هو أم ارتكبته واحدة من الجماعات الارهابية الأجنبية أم واحدة من المعارضة السورية المسلحة، وبهذا المعنى أيضاً فهو المسئول الأول عن ضرب «خان شيخون» مطلع الشهر الجاري بنفس السلاح، سواء ارتكبه هو أم واحدة من تلك الجماعات نفسها، ولا يلغي من هذه الحقيقة الساطعة بأي حالٍ من الأحوال إخلاء ساحة تلك الأطراف المحلية والجماعات الارهابية الأجنبية والقوى الاقليمية والدولية من المسئولية القانونية والدولية والإنسانية، وعلى رأسها بالطبع الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، وبخاصة حليفها القوي أنقرة العضو في «الناتو» والتي -أميركا وحلفاؤها- تقف مجتمعةً خلف تلك الجماعات سواء منذ بدايات اشتعال الأزمة التي تسبب فيها النظام نفسه أم توقفت لاحقاً عن دعم بعضها الآخر، كداعش، كما يبدو ظاهرياً الآن بعدما انقلب السحر على الساحر.
لكن في المقابل، هل يحق للولايات المتحدة، كدولة عظمى، أن تستغل قوتها ونفوذها الدولي المرتكز على جبروتها الاقتصادي والعلمي والعسكري البالغ التطور، لتستخدم ذراعها العسكرية القوية الطولى لتنفرد وحدها بتحديد الطرف الفاعل (أي المُذنب الفعلي بالضرب الكيماوي في خان شيخون) بشكل نهائي، وانفرادها بالتالي أيضاً بتأديبه بعيداً عن آليات الإرادة الدولية المعروفة، ضاربةً بعرض الحائط القوانين والأعراف الدولية وسلطة الأسرة الدولية، ممثلة في الاُمم المُتحدة التي مازالت سورية تتمتع بالعضوية فيها، بل وتتمتع دولتان، روسيا والصين بحق الفيتو مثلها، في أهم مؤسساتها -مجلس الأمن- الذي يملك تقرير مصائر الحرب والسلام في العالم؟
أليس تشكيل لجنة دولية مستقلة ومحايدة من قِبل الامم المتحدة هو الإجراء العقلاني والذي يكسبه المشروعية القانونية الدولية، ويُجنّب الشعب السوري المزيد من الأهوال؟ لا أعتقد ثمة عاقلين في العالم يقران أن تصرف واشنطن في فجر الجمعة الماضي بانفرادها بتأديب شريك معها في عضوية الأمم المتحدة ( الدولة السورية أياً يكن نظامها السياسي) من شأنه تقريب الأزمة نحو نهاياتها وحلها، بل زيادتها اشتعالاً ومفاقمتها تعقيداً وإطالة أمدها، فواشنطن ليست اللاعب الوحيد لا على الساحة السورية ولا على الساحة الدولية، والأطراف التي تنازعها الإرادات، وبخاصة موسكو، لها رؤاها أيضاً في طريقة تقرير حل الأزمة ولديها كقوة عظمى وسائلها الكثيرة، سياسية وعسكرية وخلافها، لرفض ليّ ذراعها، والشعب السوري في المحصلة النهائية والذي تتباكى باسمه واشنطن وحلفاؤها الإقليميون في الشرق الاوسط، هو الذي يدفع وحده من لحمه ودمائه فواتير إضافية ثمناً لتلك اللعبة القذرة من المقامرات السياسية الدولية غير المسئولة وغير المبالية بأوضاع ومصير الشعب المنكوب الجريح.
والحال إن الأزمة السورية لا يمكن لشاخص ينظر إليها بعمق وتأمل من كل تلك الزوايا، أن يرسم معالم حلها في الأفق القريب، إلا بتفكيك كل التعقيدات التي تُحجب الرؤى عن جذور الأزمة وكيف تطورت تعقيداتها الراهنة، وبالتالي لا يمكن لحل منشود عقلاني قريب أن ينفرد به طرف محلي سوري أو اقليمي أو دولي بغية إجبار النظام على إلقاء سلاحه والتخلي عن كرسيه طواعيةً، بل بات الأمر بعدما بلغ درجة من التعقيد والتشابك بحاجة إلى نقطة تلاقي قواسم مشتركة بين كل تلك الأطراف ترسم معالم في أقرب الآجال الممكنة لحل يفضي ضمنياً إلى حمل النظام على الاستسلام لمطالب شعبه، بأقل الوسائل إيلاماً ويكفي هذا الشعب بما ثمل من سكرات الآلام منذ أكثر من 6 سنوات. وكلما تمكنت قوى المعارضة العقلانية غير المرتهنة للنظام من توحيد نفسها وفئات شعبها في الداخل والخارج، ساعدت بذلك على فرض هذا الحل المنشود.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5330 - الإثنين 10 أبريل 2017م الموافق 13 رجب 1438هـ
عجيب أمر بعض القراء ..الكاتب تناول الخرق الأمريكي للقوانين الدولية ودون أي أعتبار للقرار الجمعي وكذلك أهمية التحقق من الطرف المسئول في جريمة استخدام السلاح الكيماوي..كما لم يقم بتحويل مجرمي روسيا إلى ملائكة ..ولكن من الواضح بأن عقدة العم سام والعمة الاستعمارية العجوز قد تجاوزت "بدون النظارات السوداء" كل فهم وقضية المسئوليات الدولية لحقوق الشعوب ...مع التحية
أعطني أكبر مجرم أمريكي أو بريطاني، وأنا أقول لك أفضل من كل ملائكة روسيا.
أنا لا أعلم ما طبيعة هذه النظارات السوداء التي ترتديها النخب اليسارية والقومية في العالم العربي عند الحديث عن أمريكا وبريطانيا، ولكنهم يتناسون الطبيعة الهمجية للروس ويتحدثون عن روسيا وكأنها تلك القوة الخيِّرة التي لا تبحث إلا عن السلام في العالم!
اذهب إلى أوربا وانظر بعينك ماذا يفعل بوتين، يمول ويدعم أخس أنواع اليمين المتطرف (لوبان في فرنسا، و فيلدرت في هولندا الخ) فقط لإحداث الحرب الأهلية في أوربا بين المسلمين والأوربيين
أمريكا وبريطانيا يمثّلون الدور الفرعوني الذي تحدّث عنه القرآن الكريم وابرز مقوّماته وصفاته المنطق الفرعوني (ما أريكم الا ما أرى وما اهديكم الا سبيل الرشاد) والقول الثاني (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي).
هاتان الدولتان ومعهما فرنسا تسبّبوا بهلاك عشرات الملايين من البشر والآن يتبجحون بحقوق الانسان والديمقراطية لكنهم لا يتنازلون عن اجرامهم ولا يتخلون عن غطرستهم فأمريكا ترفع وبريطانيا تكبس واحيانا العكس لاحظهم في مجلس الأمن كيف يتصرفون