يقول الفيلسوف الألماني الكبير هيغل: «إن بومة منيرفا لا تطير إلا عند الغسق». والبومة كطائر جارح هي رمز الحكمة عند اليونان. أما هيغل فيقصد من وراء كلامه أننا نحتاج إلى الحكمة والبصيرة الثاقبة عندما تتعرض الأمم والشعوب إلى محن وأزمات مستحكمة.
بمعنى أننا بحاجة إلى أشخاص يمتازون بحكمة بومة منيرفا، ويظهرون في الوقت المناسب لتجنيب شعوبهم ومجتمعاتهم المصير المظلم وخطر التمزق.
أما مناسبة هذا الكلام بالنسبة لفيلسوف بوزن هيغل، فهو غزو نابليون ألمانيا في 1806، وما ترتب عليه من نتائج كارثية (اتفاقية ينا) تحتاج إلى وقفة وحكمة وعقلانية من طراز جديد، بهدف الوقوف على هذا الوضع، وما آلت إليه الأمور، والبحث عن أسبابها والنظر إلى هذا الوضع من جميع زواياه، ومن ثم إعطاء الحل المناسب والأقل كلفة للخروج من هذه الأزمة التاريخية لكل من ألمانيا وأوروبا عموما في بداية القرن التاسع عشر.
ويبدو لي في ظل الحوادث المتلاحقة التي يشهدها وطننا، وهي حوادث تدخلنا في مزيد من العتمة، ما أحوجنا في مثل هذه الظروف الاستثنائية إلى بومة منيرفا وحكمتها، تلك البومة التي عبر بها هيغل رمزيا عن أهمية الحكمة، العقلانية والفلسفة التي هي من مسئوليات الرجال والنساء الكبار في مقاربة أوضاعنا الاستثنائية -والتي تعيش حالة غسق- في التزام الحكمة والرشد، باعتبار أن الحكمة هي السبيل الوحيد لتجاوز ما نحن فيه، بايجاد البدائل الممكنة والعقلانية لما نحن فيه.
ولا نبالغ عندما نقول أننا في مفترق تاريخي يجدر التوقف عنده. وهذا يتطلب في نفس الوقت حكمة منيرفا، أي العقول الراجحة بطبيعة الحال، يتطلب حكمة ومقاربة من طراز جديد، حيث ان الطرق القديمة باتت قديمة وسقيمة وعقيمة ولم ولن تحل شيئاً، وعليه فإن بداية الحكمة وفقا لبومة هيغل تبدأ بالاعتراف بواقع الأزمة التاريخية أولا، وبالبحث عن مخارج عقلانية لحالة الغسق التي نعيشها هذه الأيام.
قد تكون الفلسفة هنا أحد المداخل للتأمل بعمق فيما جرى ويجري، وهذه مهمة الفلاسفة والمفكرين. وقد يكون التاريخ مدخلا آخر لتحليل ماجرى، وأخذ العبر والخروج بنتائج مفيدة من منظور تاريخي، وهذه مهمة المؤرخين، وقد تكون الحكمة في الاقتصاد لتحليل البنى الاقتصادية ونقاط القوة والضعف لبلادنا وهذه من مهمات الاقتصاديين، وقد تكون الحكمة في تحليل الأوضاع الاجتماعية وهذه من مهمات علماء الاجتماع وعلماء النفس الفردي والاجتماعي والتربويين، وقد تكون الحكمة في النظر في الأوضاع الثقافية في بلادنا وهذه من مهمات المثقفين بمختلف تلاوينهم.
ولا شك في أن هذه المداخل مهمة، ولا يمكن الاستغناء عنها في الخروج مما نحن فيه، إلا أن رأس الحكمة بين كل هذه المقاربات يتمثل في المقاربة السياسية أو لنسمها الحكمة السياسية، أو المدخل السياسي القائم على مبادئ حكمة منيرفا، أو بومة هيغل.
صحيح أن الفيلسوف الألماني هيغل كان في وقته يتأمل في أوضاع بلاده وأوروبا فلسفيا، لكنه كان في نفس الوقت يتأمله سياسيا وفقا للأوضاع التي كانت تعيشها ألمانيا من الناحية السياسية بعد الغزو النابليوني، فقد كان بدعوته للعمل وفقا لحكمة منيرفا، إنما كان يدعو قادة بلاده لإعادة النظر فيما حدث، وتبني حكمة أخرى في هذا الغسق الطويل، وكأن لسان حاله يقول: «ما عادت حكمة الماضي تجدي فتيلا، ولابد من مواكبة العصر وايجاد بدائل مناسبة لإدارة الأوضاع».
وحكمة هيغل إذ خرجت من رأس رجل ألماني ومن بلد ألمانيا، فهي -الحكمة- ليست ملكية حصرية لألمانيا؛ بل ملك مشاع لمن أراد أن يستفيد منها في الخروج ببلده مما سماه هو نفسه بالغسق في التعبير عن اللحظة التاريخية الفارقة التي كانت تمر بها ألمانيا، والربط بين البومة رمز الحكمة ولحظة خروجها/ الغسق. فهل نستفيد من دعوة هيغل؟ وأنه قد آن الأوان لظهور بومة منيرفا في سماء البحرين، فهل تشهد بلدنا ذلك الظهور الضروري؟ لانجزم بشيء، لكننا نأمل ذلك وندعو إليه ونتطلع، فقد طال غسق البحرين، ولابد من الحكمة، أيا تكن مسمياتها، ومن أين جاءت.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5316 - الإثنين 27 مارس 2017م الموافق 28 جمادى الآخرة 1438هـ