كان واحد من المصطلحات التي راجت في الخطابين القومي واليساري بين منتصف الخمسينات إلى مطلع السبعينات تقريباً، دمغ كل الأنظمة العربية التقليدية المحافظة التي ترتبط بعلاقات وثيقة وتحالفات مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بـ «الرجعية»، وخلع صفة «التقدمية» على الأنظمة القومية التي ترتبط بعلاقات وثيقة وتحالفات مع دول المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي، حتى لو تساوى كلا الطرفين العربيين «الرجعي» و«التقدمي» في تبني نهج الاستبداد وحكم الفرد وتغييب الشرعية الدستورية كأسلوب في الحكم. لكن التجربة التاريخية المريرة أثبتت أن ما تُعرف بالأنظمة الجمهورية «التقدمية» لا تكاد تختلف عمّا تُسمى بالأنظمة «الرجعية» ليس في النهج الدكتاتوري التوتاليتاري فحسب؛ بل حتى في نزوع رؤساء هذه الجمهوريات أو معظمهم للتوريث وتخصيص نصيب كبير من المراكز والمناصب الحساسة في جهاز الدولة لأبناء طائفة الرئيس أو منطقته، بغض النظر عن مدى أهليتهم وكفاءتهم لتوليهم إياها. فأهم معيار عند الرئيس الزعيم الضرورة هو مدى ولائهم الأعمى له، وعمّا إذا يمتون له بقرابة، وإن كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر عُرف عنه بلجوئه إلى تعيين من يثق بهم من رجالاته، وبخاصة من رفاقه في مجلس قيادة الثورة، وإبعاد أبنائه وأقاربه عن السلطة.
كما ساد شكل من أشكال التنميط المبسّط في اللغة السياسية العربية، وذلك بتخوين كل شخصية تقبل بالدخول في أي تشكيل وزاري حكومي بأي دولة عربية في مُطلق الأحوال، على رغم ثمة استثناءات خارج هذه المعايير التنميطية الضيقة قد يلجأ إليها الحاكم العربي، لاعتبارات خاصة وتوازنات سياسية وحتى اجتماعية وطائفية، أو لضرورات إضفاء شيء من العدالة والمساواة على نظام الحكم القائم، فيخصّص لذوي الكفاءات والإخلاص الوطني في العمل التنفيذي عدداً محدوداً من المناصب الوزارية والتنفيذية في الدولة، وبخاصة إذا ما اطمأن الحاكم لولائهم والتزامهم بوجه عام بتنفيذ السياسات العليا التي يحددها. ولعل نماذج هذه الشخصيات على رغم ندرتها أحسبها معروفة في كل قطر عربي، وهي نماذج تركت بصمات إدارية وإصلاحية بيضاء ولو بالحدود الدُنيا، وإن بتنا نفتقد اليوم حتى لأمثال هذه النماذج على رغم محدوديتها في التشكيلات الوزارية العربية في زمننا الحاضر، بعدما بلغ قلق معظم دولنا العربية ووساوسها الأمنية مداه الأعلى.
لكن ثمة نماذج عربية في تجارب الحكم لا ترتضي لنفسها البتة التقاعد عن العمل العام، أو انتهاء دورها الوطني بإبعادها أو ابتعادها عن الوزارة أو العمل الحكومي التنفيذي، بل تواصل عطاءاتها من أجل وطنها وأمتها، وتلعب أدواراً وطنية وقومية تُحسب لها من مواقع مختلفة خارج العمل الحكومي. ولعل التجربة الأردنية واحدة من تلك التجارب العربية في هذا الشأن، ويحضرنا هنا نموذجان مشرفان وإن كانا من النماذج غير المتقاعدة؛ بل التي تنقلت في مهام عملها العام.
النموذج الأول وهو ينتمي للأسرة الملكية، ويتمثل في الأمير زيد رعد الحسين الذي تقلد منصب المفوض السامي للأمم المتحدة في الأول من سبتمبر/ أيلول 2014 بعد موافقة جمعيتها العامة على توليه هذا المنصب في يونيو/ حزيران من العام نفسه، وكان قبل ذلك يشغل منصب المندوب الدائم لبلاده في المنظمة الدولية برتبة سفير (1996 - 2000)، وترأس مجلس الأمن في يناير/ كانون الثاني 2014. وعلى رغم الشُبهات التي أبدتها بعض الأصوات من عدم قدرة أمير ينتمي للعائلة المالكة الأردنية على تولي هذا المنصب الدولي وممارسة دوره باستقلالية بعيداً عن سياسات حكومته، إلا أنه أثبت منذ توليه هذا المنصب قدرته على احترام هذه الاستقلالية التي يتطلبها منصبه، ويؤدي دوره بأمانة موضوعية كاملة بما تفرضه طبيعة هذا المنصب الدولي المهم بكل تجرد، حتى لو تعارضت مواقفه كمفوّضٍ سامٍ، مع مقتضيات سياسات ومصالح بلاده الآنية وصداقاتها مع شقيقاتها الدول العربية. ولا ريب أن ذلك ليصب دولياً في صالح سمعة المملكة الأردنية لجهة قدرتها على تقديم نموذج من الشخصيات المشرفة، القادرة على لعب أدوار نزيهة في المجال الحقوقي على الصعيدين العربي والدولي .
النموذج الثاني يتمثل في الشخصية النسائية ريما خلف، وهي نموذج يحق للمملكة الأردنية الهاشمية أيضاً أن تفتخر به من جانبين: الأول كونها امرأةً سبق أن تولت حقيبة مهمة معنية بواحدة من أهم الوزارات المختصة بعصب الاقتصاد الأردني، وهي وزارة الصناعة والتجارة (1993 - 1995)، والثاني موقفها القومي الأخير المتسق مع الإرادة الدولية المستقلة في المنظمة التي تترأسها «الاسكوا»، حيث وقفت بكل شجاعة وإباء الأسبوع الماضي، حينما رفضت طلب الأمين العام للأمم المتحدة، تواطؤاً منه مع الضغوط الأميركية، سحب تقرير المنظمة الذي يدين إقامة «إسرائيل» نظاماً للفصل العنصري «الأبارتهايد» بحق الشعب الفلسطيني، على رغم أن التقرير صدر بناءً على تحقيقات شخصيتين أميركيتين تتمتعان بقدر معقول من النزاهة، وهما كل من ريتشاد فولك الخبير في القانون الدولي وحقوق الإنسان، وفيرجينيا تيلي الأستاذة في العلوم السياسية بجامعة جنوب الينوي - كاربونديل .
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5316 - الإثنين 27 مارس 2017م الموافق 28 جمادى الآخرة 1438هـ