يستحضر التونسيون في 20 مارس/ آذار من كل سنة، ذكرى عيد الاستقلال أو العيد الوطني، يستحضرونه سواءً كانوا في تونس أو خارجها، بكثيرٍ من الفخر والاعتزاز والاعتراف بالجميل، لجيلٍ من الوطنيين سطروا بنضالاتهم صفحات ناصعة من التاريخ.
لكن في مثل هذه المناسبة، قد لا يُجدي الإنشاء والتعبير الجميل والعاطفي، وإنّما يدعونا العقل إلى الوقوف أيضاً عند بعض الحقائق المتعلّقة لا بحدث الاستقلال نفسه، وإن كان هذا باباً يطول فيه الحديث، وإنّما في صور الاحتفال بهذه الذكرى في تونس منذ الاستقلال وحتى اليوم.
مثّل استقلال تونس بالنسبة إلى الرعيل الأول من المناضلين في النصف الثاني من القرن الماضي، ولكل التونسيين عموماً آنذاك، أعظم إنجاز في تاريخ تونس المعاصر، وغدا الاحتفال به سنّة حميدة وأخذ أشكالاً كثيرة؛ فقد كان مع جيل الاستقلال فرصة لاستحضار عظمة الملاحم البطولية عن قرب، واستشراف مشروع بناء الدولة المستقلة بكل أمل لاستكمال الاستقلال الاقتصادي والثقافي وخوض معركة التنمية.
لكن مع مرور السنين، أخذ الاحتفاء بهذه المناسبة يتقوقع بشأن شخص الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي ما فتئ في خطاباته المتلفزة اليومية يرسّخ فكرة الزعيم الأوحد، ساعده في ذلك الطبيعة الكليانية لحكمه، وعمل على تغييب جهود جيل عظيم من الوطنيين والقادة المناضلين على غرار الزعيم عبد العزيز الثعالبي، والزعيم الوطني فرحات حشاد والزعيم الوطني والعروبي صالح بن يوسف، أحمد الصافي، أحمد توفيق المدني والزيتونيين وغيرهم كثير. أسماء قد لا يعرف عنها إخواننا في المشرق وفي الخليج العربي تحديداً إلا الشيء القليل. بل نجحت سياسة التغييب هذه وعملقة دور المجاهد الأكبر في تهميش دورهم إلى درجة نسيانهم.
وتحوّل الاحتفال بالعيد الوطني إلى نفخٍ في صورة الحبيب بورقيبة، وإقصاء للزعماء والحوادث الجليلة التي قادوها، وصار معظم التونسيين ينتظرونها لنيل إجازةٍ من الدوام الرسمي، وآخرون لنيل وسام الولاء للمجاهد الأكبر.
إثر ذلك جاءت حقبة الحكم «النوفمبري» في تونس، نسبةً إلى «صانع التغيير» الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الذي انقلب على رئيسه في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، والذي لم يكتفِ بتغييب دور الرئيس السابق أو على الأقل تحجيمه، وإنّما عمد إلى تشويه تاريخ العيد الوطني بفضل الماكينة الإعلامية التي جيّشها لخدمته، حتى جعل من نفسه «صانع التغيير»، ومن 7 نوفمبر عيداً وطنياً. ولم يسع إلى محو من له الفضل عليه في الوصول إلى المناصب العليا، وإنما سعى إلى ضرب الذاكرة الوطنية التونسية في الصميم.
بعد انتهاء حكمه مطلع العام 2011، انشرحت صدور التونسيين لعيدهم الوطني، وأخذت البلاد قبل العباد تتحلى بأجمل مظاهر الزينة والاحتفال بهذه الذكرى العظيمة، وتحوّلت الساحات في كل ذكرى 20 مارس من كل سنة إلى ميادين للفرح والسعادة، وانجلى فعلياً القيد المعنوي الذي خلّفته حقبتان من الحكم سعت إلى تعظيم دور الفرد وتغييب دور الشعب.
صار الاحتفال بالعيد الوطني في تونس اليوم مختلفاً، على رغم ما يحفّ بالبلاد من مخاطر اقتصادية وأمنية كغيرها من دول المنطقة والعالم. صار فرصةً لالتقاء الناس في الشوارع حاملين راية الوطن لا صور الزعماء، ناظرين بعينٍ حالمةٍ إلى المستقبل، حلم تراه يمشي مع الصغار رفقة آبائهم، وقد التحفوا العلم وهم يردّدون النشيد الوطني.
لم يعد يهتم التونسيون بالاحتفال الرسمي في القصر؛ لأن الجميع صار يحتفل في القصر الأوسع في أرض الوطن، كلّ بطريقته وبالتعبير الفني والثقافي والسياسي الذي يراه متلائما مع اللحظة.
لعلّ أجمل ما في الحقبة الجديدة من تاريخ تونس بعد 2011، أنها لم تغتصب الذاكرة التاريخية لجيل المناضلين، الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض الوطن في فترة الكفاح المسلح بتونس. لا، ولا نصّبت لها زعيما جديدا ينخر من جديد ذاكرتها الوطنية الحبلى بالأسماء العظيمة والحوادث الجليلة، بل لن يتجرأ أحد على ذلك أبدا.
إنّا إذْ نسترجع هذا اليوم، وإن كنا بمنأى عن تونس، فإن الأمل بنجاح تجربتها الجديدة يظل قائما رغم المحن، وإنّ لذكراك في القلب وطنا... يا وطنا لك في القلب وطن.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5309 - الإثنين 20 مارس 2017م الموافق 21 جمادى الآخرة 1438هـ
كلّ عام وتونس بألف خير ..وأطلب من الأستاذ سليم أن يحدثنا مستقبلا عن المناطق السياحيّة الرائعة التي لا يعرفها أغلبنا في الخليج العربي لعلّ هذا يشجّع على زيارة هذا البلد العربي الجميل خدمة للسياحة التونسيّة ..ومشكور سلفا
عيدكم مبروك يا توانسة
الله يعينكم بعد موسهلة
كل عام وتونس حرة منيعة، كل عام والتونسيون بألف خير
تونس: الوطن،الحب، الخير العميم...
ربما في غير هذا الموقف ينطلق اللسان، لكن ونحن في المهجر،ترى العبرات تسبق كتابة العبارات
عاشت تونس أبية منيعة أبد الدهر