الفنان الدلموني راشد العريفي في ذمة الله. شيعته حشود البحرينيين، أمس الأحد (19 مارس/ آذار 2017)، في مقبرة المحرق، مسقط رأسه و «الرحم الذي منه انطلق للعالمية»، كما يصف محافظ المحرق سلمان بن هندي.
«الوسط» التقت بالقريبين من العريفي، الفنان التشكيلي وجامع التراث ومؤلفه، فكانت سيرة «مبتكر المدرسة الدلمونية، وصاحب امتياز دمج حضارة الـ 6 آلاف عام، بفن العصر الحديث»، يقول ذلك عدد من الأسماء البحرينية البارزة في مجال الفن التشكيلي.
وفي تعبير عن حضور العريفي، كانت مقبرة المحرق ومسجد حمد بن علي كانو يغصان بالمشيعين والمعزين. جمع من العموم و «الكبار» ممن كانوا يؤكدون أن «للفقيد العريفي، فضلاً علينا، ألهمنا وحفزنا وعلمنا»، من بين أولئك المصور المعروف عبدالله الخان ومحافظ المحرق سلمان بن هندي والفنان أحمد الجميري، وشقيق الفقيد، الفنان أحمد العريفي.
تحدثوا جميعهم لـ «الوسط»، فكان الإجماع على ريادة العريفي، بوصفه مؤسس جمعية البحرين للفن المعاصر برفقة «توأمه» كريم العريض، وآخرين.
البداية من شقيق الفقيد، الفنان أحمد العريفي، الذي تطرق إلى بعض من ملامحه تجربة شقيقه فقال: «الفقيد راشد العريفي، وكريم العريض، والمرحومان راشد سوار وعبدالعزيز زباري وآخرون، كل هؤلاء جيل لا يمكن تعويضه. جيل ظهر في الخمسينيات والستينيات، ومنه ظهرت جمعية البحرين للفنون التشكيلية وجمعية البحرين للفن المعاصر».
أحمد العريفي خريج كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وصاحب تجربة فنية قوامها نحو نصف قرن من الزمان، تحدث عن شقيقه بكثير من الامتنان، معبراً عنه بـ «الأخ والأستاذ في الوقت ذاته. تأثرت به وهو بدايتي الفنية»، وأردف «ينتمي الفقيد للجيل المؤسس للحركة الفنية التشكيلية في البحرين، وفي العام 1956 كان بمعية أقرانه في أسرة هواة الفن، وعبر تأسيس الجمعيتين تمت لململة شتات الفنانين في البحرين».
ومع المصور الشهير عبدالله الخان كانت الوقفة، وكان الحديث. يقول الخان مستعرضاً تلازمه مع الفقيد الفنان راشد العريفي: «له فضل عليّ، فأنا من طبعي لا أستطيع التصوير من دون إلهام، والصور المميزة التي التقطها عن المحرق كانت معه وهو يسير معي، في الدواعيس وفي الفرجان، ولولا راشد لما كان لدي كل هذه الكمية الهائلة عن المحرق».
وأضاف «مثل دور المحفر لي، وكنت أرى بعين راشد. هو مدرسة بتفكيره وأدائه ومؤلفاته، حيث بدأ الرسم بفرشاة ثم انتقل للرسم بيده. ومن بيئته المحرقية العتيقة كان تأثره وولعه بالتراث، وعطفاً على كل ذلك فإن رحيله خسارة حقيقية».
وتابع «تولع كذلك بحقبة دلمون وتعمق فيها أكثر من غيره، ومتحفه بمحتوياته شاهد على ذلك»، معبراً عن مشاهداته بالقول: «كان لديه نمط معين وطريقته الخاصة في توزيع الألوان تعرفك من بعيد على لوحاته، كما كان حريصاً على اختيار «البراويز» المناسبة للوحة».
خلف الفقيد راشد العريفي تركة ثقيلة وراءه، فما بين أعماله الفنية و «مدرسته الدلمونية» ومؤلفاته في مجال التراث الشعبي ومتحفه، تدور الحكاية. حكاية تركة، هي اليوم أمام تحدي الاستمرارية والخلود.
بشأن «المدرسة الدلمونية» تحديداً، تحدث شقيقه أحمد العريفي بطمأنينة، خلافاً لرأي آخرين، وقال: «لا أعتقد أننا أمام تركة أو مدرسة ستندثر، فنحن نتحدث عن تاريخ وحضارة، فهل اندثر فن الفراعنة مثلاً؟ أو الفن الإسلامي؟».
وأضاف «استفاد الفقيد من حضارة دلمون التي تركت أعمالاً فنية بما يزيد على 800 عمل فني ممثل في الأختام، وكل ختم عبارة عن لوحة»، وتابع «انتبه الفقيد وانتبه آخرون لذلك، وأنا شخصياً لدي اهتمام بهذا المجال، غير أن الفقيد تميز بوصفه أستاذاً للفنون وذلك عبر التدريس وإيصال هذه المدرسة الفنية للطلبة».
وتدليلاً على استمرارية مدرسة الفقيد الفنية، قال: «لدي معرض قادم يضم نحو 120 ختماً من الأختام الدلموني»، معرجاً من ذلك للحديث عن سر هذا الولع بالفن الدلموني فقال: «مررنا بمدارس فنية متعددة، فدرست الفن الفرعوني وفنون الحضارة الإسلامية».
على المستوى الشخصي كانت الإشارة إلى دماثة خلق الفقيد، حتى كان الفنان أحمد عنان يقول: «كان يتعامل مع الناس برقي، تماماً كما يتعامل مع الفن. رجل سلام يحب الخير للجميع ولا يبخل بمساعدة الفنانين».
أما المحافظ بن هندي فكان يشير «عن قرب» إلى عشق الفقيد للقيادة والبلد والتراث، وهو ما «انعكس على أحاديثه وحتى لباسه، ولعل سر حيويته في حبه للبلد، ما ساهم في كسره الدائم للجمود، ورفده وإثرائه المستمر لي في المحافظة بالأفكار».فنياً نوه الفنان عادل العباسي بتجربة الفقيد راشد العريفي الفنية، وقال: «أعتبر أن الفقيد هو جسر بين الحضارة الدلمونية والفن المعاصر، وتمكن من تقديم حضارة دلمون بروح معاصرة، وما نأمله أن تواصل الأجيال اللاحقة هذه المسيرة، والمراكمة عليها عبر حمل النمط الفني للفقيد وتطويره، انتقالاً بالنشاط الفني لمستوى الحركة الفنية التي تشتمل على الفكر والحضارة والفلسفة».
وأضاف «لم يسبقه أحد لأخذ الرموز البدائية وتحويلها لألوان وخطوط ولغة معينة، وقد قدم كل ذلك بصورة مبهرة»، وتابع أن «هناك من رسم من وحي الفن الدلموني، لكن لم يقدم ذلك كفكر أو فلسفة فنية كما هو الحال مع الفقيد راشد العريفي»، محذراً في هذا الصدد مما يتهدد «مدرسة العريفي الدلمونية» من اندثار أو ضعف.
«الكرة في ملعب الفنانين» يقول العباسي وهو يشدد على ضرورة الانتباه لما هو موجود محلياً ويمتد لآلاف السنوات عوضاً عن الاستعانة بالقادم من الخارج.
ووفقاً لوصف الفنان أحمد عنان، فإن الفقيد راشد العريفي رائد من رواد الفن التشكيلي في البحرين، وقد ألف العديد من الكتب التراثية، والكتابات الفكرية، كما أسس مدرسة خاصة أسماها المدرسة الدلمونية وهو رائد من روادها، له متاحف، وكان حاضراً على مستوى المعارض في تعبير عن نشاطه وغزارة انتاجه.
عنان نوه إلى جانب ذلك بقيمة المدرسة الدلمونية، فقال: «ارتكز الفقيد في دراسته على تاريخ البحرين وتاريخ دلمون وتايلوس واستقاها من كثير من الآثار في المتاحف، كذلك استعان بالأختام الدلمونية واستثمرها لعمل أعمال منحوتة بزوايا ثلاثية الأبعاد، ذات لمسة إنسانية جميلة، وهو الوحيد على مستوى البحرين الذي اهتم بهذا التاريخ، ولديه إرث كبير بفضل ذلك».
بدوره، نوه رئيس جمعية البحرين للفنون التشكيلية علي المحميد، بموقع الفقيد راشد العريفي فنياً، وقال: «نتحدث عن أحد كبار الفنانين الرواد، رحمه الله، وسيرة حياته جميعها معه الفن»، مضيفاً ان «الفقيد صاحب بصمة على الفن التشكيلي، وله محبون ومقلدون وفنانون يحذون حذوه».
وفي رأي لافت، قال المحميد: «بحسب رأيي لا وجود لشيء اسمه مدرسة دلمونية، فدلمون هي تاريخ ممتد، والفقيد عشق هذا اللون من الفن فتمسك به واتخذه كمسار خاص وهو ما يمكن أن يتبعه فنانون آخرون».
مطالبات ظلت حاضرة بضرورة تنشيط هذا المعلم التراثي البارز والذي يتخذ من المحرق، موقعاً له.
يقول المحافظ بن هندي: «راشد هو بصمة خليجية دولية تجاوزت حدود البحرين، أما المتحف فإنني عازم على التباحث مع رئيس هيئة البحرين للسياحة الشيخ خالد بن حمود آل خليفة، وذلك لاستعادة حيوية ونشاط هذا المتحف، واستعادة جاذبيته للسياح والزوار».
رداً على ذلك، كان شقيق الفقيد، الفنان أحمد العريفي يعقب «في السابق طلب من الفقيد أن يتم ضم المتحف تحت إشراف الجهة الرسمية المختصة، فرفض، وفضل أن يستمر حال المتحف على ما هو عليه طوال حياته، قناعة منه بضرورة أن تبقى أعماله الفنية معروضة وسط المحرق، بين أهله وأسرته».
وبشأن مصير المتحف حالياً، قال: «لم يترك لنا الفقيد أي تكليف أو وصية بشأنه، لذا سيستمر في أداء دوره تحت إشراف أسرته، ولدينا كعائلة المجال للتفكير في أية خطوات لاحقة».
صداقة وعلاقة حميمية جمعت الفنان المعروف أحمد الجميري بالفقيد راشد العريفي. قرب مكن الجميري من الحديث عن العريفي، «الرفيق والصديق، بمعية أصدقاء من بينهم الشاعر علي عبدالله خليفة والفنان الشيخ راشد آل خليفة، وعلى رغم تفاوت الأعمار إلا أننا جميعاً خرجنا من بيئة واحدة وهي بيئة المحرق ما ركز المشتركات بيننا جميعاً».
يقول الجميري لـ «الوسط»: «يمتاز راشد بأسلوب عالمي لم يجاره أحد في ذلك، سواء كان ذلك في الدلمونيات أو في مزج الأولون، بما ساهم في تخليد ذكراه وذلك عبر أعماله التي يضمها متحفه، إلى جانب مقتنياته التي تنتشر عند «كبار القوم»، والموجودة في المتاحف المحلية والعالمية»، وأضاف «هو باق بأعماله، التي لها قيمة حقيقية».
وفيما يتعلق بولع العريفي بالتراث الشعبي الذي ألف فيه، قال الجميري: «كل شيء شعبي اهتم به راشد، من الأمثال والتراث، والسر في ذلك يعود للبيئة المحرقية، الى جانب كونه عاش في فترة «النقلة الحضارية» بين أيام الغوص وعصر البترول. نقلة انتهت إلى عدم استعمال ما كنا نستعمله سابقاً، في كل شيء، ما حدا بالفقيد للعمل على تدوين تاريخ هذه الأشياء».
وفي رسالة لمن يعنيه الأمر، أطلق الجميري نداءه «أرجو من مملكة البحرين ألا تفرط في هذا الإرث الكبير الذي تركه راشد والذي هو مفخرة للبحرين، ومن المهم أن نعرف قيمة هذا الإرث الفني وتأثيره على سمعة البحرين، كما أطلب لفقيدنا المغفرة وأن يجمعنا الله معه في الجنة».
واستمراراً للحديث عن تأثير البيئة المحرقية، كان المحافظ بن هندي يدلي بدلوه «راشد عالمي، وصعب على محافظ المحرق أن يدعي أن راشد محرقي فقط، لا، ففقيدنا عالمي وتواجده خارجياً في المحافل والمعارض هو أمر عظيم، أما المحرق فهو ابنها البار، لذا لابد من وقفة رسمية وأهلية تجاه هذا الرمز، وأنا كمحافظ حريص على إثارة الموضوع رسمياً، كأن يطلق اسم الفقيد على أحد المعالم البحرينية، كتعبير عن تكريمه».
وفيما إذا كان قد تبلور لديه مشروع معين، قال بن هندي: «لانزال في مرحلة الأفكار، ونحن نرى أهمية تكريم فنانينا ومفكرينا في حياتهم، وهو ما نحرص على تنفيذه في المحافظة».
أحوال ليست مزدهرة، هي ما يعيشه فنانو البحرين التشكيليون، فيما الحديث من وحي رحيل أبرز الرواد، عن حاجة هذه الفئة لاستنهاض جديد.
في ذلك يقول الفنان التشكيلي أحمد عنان: «حين ننظر لما حولنا من بلدان خليجية، نجد أنهم قد تجاوزونا بمراحل كثيرة بعد أن كانت البحرين صاحبة الريادة والسبق على المستوى الخليجي، وهو أمر مؤسف».
خروجاً من ذلك، أوصى عنان بضرورة وجود الاهتمام الرسمي على المستوى الدولي، وتأسيس جامعات تختص بالفن، وتأسيس ولو متحف واحد للفن التشكيلي، وعقب «معيب ألا يوجد في البحرين ولو متحف واحد، يضم أعمال جميع الفنانين من الرواد إلى الشباب، من كل المدارس وكل الفئات، وفي حال تحقق ذلك أنا على ثقة من ازدهار حركة الفن التشكيلي في البحرين، البلد الذي لايزال قادراً على إنتاج المزيد من الفنانين، وهي دولة ولادة باستمرار وتحتوي على أعداد ضخمة من الفنانين الموهوبين القادرين على المقارعة عالمياً عبر المعارض والمزادات». أما الفنان العباسي فاختار اختتام الحديث بالتأكيد على الحاجة إلى الانتقال الفن التشكيلي في البحرين من مستوى النشاط الفني إلى الحركة الفنية، وعقب «تحتاج هذه «النقلة» للفكر والفلسفة، وهو ما لا يتوافر لدينا مع الأسف الشديد».
العدد 5308 - الأحد 19 مارس 2017م الموافق 20 جمادى الآخرة 1438هـ