العدد 53 - الإثنين 28 أكتوبر 2002م الموافق 21 شعبان 1423هـ

قرارات الكونغرس والإنذار الأخير لصقور النظام السوداني

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

حين قلت لهم في الخرطوم في سبتمبر/ ايلول العام 2001، أي قبل عام وشهر، انه بعد ربيع العام 2002 ستضعنا أميركا جميعا أمام خيارين: إما فرض نهج «كوسوڤو» بكل تبعاته وإما ان ننحاز إلى «الانقاذ» حيث تغرق، استخف بقولي «صقور» النظام.

سقت هذا «التحذير» مباشرة إثر تعيين الرئيس الاميركي السناتور السابق «جون دانفورث» مبعوثا رئاسيا للسودان بتاريخ 6 سبتمبر/ ايلول 2001 قبل تفجيرات سبتمبر بخمسة أيام فقط.


وفصّلت لهم القول وقتها، وبما هو موقوت بالزمان، فأوضحت لهم أن دانفورث سيعطيهم - بعد البدء في مهمته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 - فرصة شهرين كحد ادنى إن هم توافقوا معه على بعض ما يطرح بالنسبة إلى الجنوب وكحد اقصى مدة ستة أشهر إن يستجيبوا أو يتوافقوا معه، وأن الشد والجذب «المناورات» بينهم وبين اميركا سينتهي قطعاً بعد ربيع 2002 إذ تكون اميركا قد هيأت «نفسها» وبمعية «حلفائها الاقليميين» وبمعية «قوى سودانية» لازاحة «صقور» النظام أو في «الخيار الأخير» إزاحة النظام كله.


نشر حديثي كله مفصلاً على اربع حلقات، تصدرها مانشيت التحذير (بعد ربيع 2002) وذلك في صحيفة الصحافي الدولي»، تاريخا وتتابعاً كالتالي: (15/9/2001 - العدد 573) ثم (22/9) ثم (27/9 - العدد 584) ثم (13/10 - العدد 597).


وحين وصل «دانفورث» الخرطوم مطلع نوفمبر 2001 وبدأ تقديم مقترحاته عن التسوية «المطلوبة أميركيا» في جنوب السودان بما ينتهي إلى نظامين في دولة واحدة، وكذلك التسوية المطلوبة (ضمنا) في شمال السودان نفسه بما ينتهي إلى «توسيع» قاعدة المشاركة السياسية والوطنية في الحكم واتخاذ القرار، وبدأ التلويح بأنه لن يصبر اكثر من ستة أشهر سارعت «الصحافي الدولي» بنشر حلقات الحوار مرة اخرى مطلع 17 نوفمبر 2001 وبوجود دانفورث.


تمكن «صقور» الانقاذ من الالتفاف على فترة الاشهر الستة التي قدرت تزامنها مع ربيع 2002 بعد البداية بنوفمبر 2001 وذلك حين هرعوا لتوقيع اتفاق في سويسرا تحت رعاية اميركية لوقف اطلاق النار في منطقة جبال النوبا بتاريخ 19 يناير / كانون الثاني 2002 بين حكومة الانقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان. خصموا شهرين ونصف الشهر لصالحهم من فترة الاشهر الستة بتحويلها إلى حساب الاتفاق على «جبال النوبا».


ومع أمر آخر، هو اتخاذهم هذا الاتفاق «عربون شراكة ثنائية» بينهم وبين اميركا كما كان يفعل نظام جعفر نميري مع شركة «شيفرون» النفطية الاميركية. وحذرت من محاولة ذلك مسبقا في حديثي المشار إليه قبل وصول «دانفورث».


ولكنهم «استخفوا» بذلك ايضا فشرعوا في طرح «الشراكة الثنائية» وقدموا ما ظنوه عربونا في «جبال النوبا».
الحيلة لم تمر على «دانفورث» فقادهم «عنوة» إلى مشاكوس في يوليو/ تموز من هذا العام تحت مظلة «الايغاد» الافريقية وشركائها الاوروبيين وبمعزل عن «المبادرة المصرية الليبية» التي لم توفر جامعة الدول العربية لها حتى الغطاء العربي.


وارادوا المناورة في مشاكوس، ليس اثناء المفاوضات، ولكن منذ ان بدأ دانفورث يطرح عليهم «مقدمات» التفاوض عن الجنوب وفق اربعة شروط في فبراير 2002. وبعد توقيع اتفاق جبال النوبا مباشرة في 19 يناير. ومن بين تلك الشروط: وقف عمليات «القصف الجوي» تحديداً، غير انهم استمروا في القصف، فأنذرهم «دانفورث» وهو في الخرطوم، «فاعتذرت» وزارة الخارجية السودانية مع «الالتزام» بضبط «الصقور» في القوات المسلحة وخارجها. ثم تجدد القصف الجوي بتاريخ الخميس 21 فبراير 2002.


حينها اوقف دانفورث اتصالاته، وبدأت ملفات السودان تتحول إلى «البنتاغون» وبالكيفية ذاتها التي تحولت بها السياسة الاميركية من «عزل» النظام السوداني و«احتوائه» إلى«خنقه».


و«بالتزامن» ظهرت حشود المعارضة السودانية المسلحة (التجمع الوطني الديمقراطي) في شرق السودان، والاتهام السوداني - نظاما - يوجه دائما إلى أرتريا.
وبالتزامن - وهذا كله حادث في مارس/ آذار وابريل/ نيسان 2002 بعد ان غسل دانفورث يده - اكتشف صقور النظام انهم لا يستطيعون مواجهة المعرضة السلحة في الجنوب وفي الشرق على حد سواء فعمدوا لمحاولتين:


الاولى: بفك الارتباط بين يوغندا وحركة الجنوب فسمحوا للجيش اليوغندي بالتوغل داخل الاراضي السودانية لتصفية قواعد «جيش الرب» المعارضة لنظام الرئيس «يوري موسيفيني» وهو الامر الذي اثار احتجاج نواب النظام انفسهم في جلسة «مجلس الوطني» بتاريخ 2 ابريل 2002 إذ اعتبروا ان الامر «مخل بالسيادة الوطنية» إذ كيف يسمح لقوات دولة اجنبية بدخول الاراضي السودانية وتصفية معارضيها؟!!.
والثانية: بعودتهم إلى مغازلة النظام الارتري الذي كانوا استعادوا علاقتهم الدبلوماسية معه بتاريخ 14 يناير 2000 بعد قطعها بتاريخ 6 ابريل 1994، وبما ان النظام الارتري ابدى حرصه على ربط المغازلة بفتح حوار سوداني - سوداني مع قوى التجمع و«بمشاركة» ارترية فإن الملف سرعان ما اغلق.


بتحول الملف إلى البنتاغون، ومحاذير الجيش السوداني من فتح الجبهتين الجنوبية والشرقية معاً، ومع إدراك النظام أن مطاردة الرئيس اليوغندي لمعارضيه في جنوب السودان لا تعني تقليصا لفعاليات الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، مع اقصاء الرئيس الارتري إسياس عن اي «صفقة ثنائية» مع نظام الخرطوم من دون اشراك قوى التجمع الوطني الديمقراطي السوداني.


بتقدير ذلك كله ادركت صقور النظام انه لا بد من العودة مجدداً إلى دانفورث.


وهذا ايضا ما نصحت به في حديثي المنشور بتاريخ 2 ابريل 2002 في «الصحافي الدولي» - عدد (730 - السنة 3)، وبعنوان «المانشيت في الصفحة الثالثة دانفورث مهّد للبنتاغون وحشود الشرق جزء من المخطط». وليس بالضرورة ان يوجه الاتهام هنا إلى الرئيس الارتري بأنه وراء حشود الشرق العسكري المعارضة ، أذ ان لقادة التجمع من العسكريين حساباتهم ايضا.

-هل بدأ العد التنازلي لاسقاط النظام؟


مازلت عند قناعتي بان واشنطن لا تريد اسقاط «كل» النظام وانما «بعضه» فأميركا إذ أصدرت قانونها الذي يحظر مبيعات النفط السوداني «الانتاج الراهن 275 الف برميل يوميا» والقاضي بحجب اي قروض مالية من المؤسسات المالية الدولية وعقوبات اخرى أي «ان ترفع الشرور التي يتعرض لها الشعب السوداني على ايدي حكومته» بحسب تصريح الرئيس بوش لدى توقيع القانون فإنها تحاول ضم ثلاث قوى سودانية إلى بعضها بعضا كمرحلة شيدية لما هو «اكبر».


اولا: المعتدون داخل الانقاذ الذين - يتجاوزون الصقور باتجاه التوافق مع المقررات الاميركية في مشاكوس ومع الانفتاح الاقليمي والدولي والانفتاح الداخلي الوفاقي الوطني.
ثانيا: الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد «جون قرنق».
ثالثا: القيادات «الفعالة» في التجمع الوطني الديمقراطي ولكن: ماذا عما هو ابعد؟
عبر الضغط واشهار سيف العقوبات تستهدف واشنطن من خلال انجاح مباحثات مشاكوس ان تؤدي إلى انجاح اجندتها هي في مشاكوس لاعادة صوغ الدولة السودانية «الجديدة» التي تتوافق مع من منظورات العولمة الاميركية. فمشاكوس «انهار ميدانيا» و «بداية» اما الافاق المستقبلية القريبة فتتسع للمجتمع السوداني كله من قضايا «حقوق الانسان» إلى «الليبرالية الاقتصادية والسياسية» وشروط التجارة العالمية وكل ما في الجعبة.
وإذ استحالت ضغوط «قانون السلام» فإن الغزو قادم من الجنوب كما هو من الشرق، فأميركا لا تجتاح شمال السودان من جنوبه، ولا تجتاح الشماليين بالجنوبيين، ومن هنا تأتي قيمة الشرق.
كما ان اميركا لا تجتاح عسكريا الا اذا فقدت ثقتها بمقدرة «المعتدلين» على الحركة داخل النظام لاقصاء «الصقور» والمعركة محتدمة «الان» داخل النظام بدليل «النفي المتكرر والقاطع» لوجود هذه المعركة والذي يرد على ألسنة بعض «الكبار» في النظام، ومعظمهم من الصقور في حين لا يرد النفي على ألسنة المعتدلين.
ثم ان لا ميركا رؤيتها الخاصة «لقيادات» في (التجمع الوطني الديمقراطي) الذي يشن هجماته في الشرق، بمن فيهم رئيس التجمع نفسه محمد عثمان الميرغني الذي «يبدو مواليا» إلى مصر، وبمن فيهم «الشيوعيون».
ولها نظرتها المتحفظة تجاه بعض «مسارات» و«مناورات» العقيد جون قرنق نفسه الذي يريد توظيف الموقف الاميركي ضد «صقور» الانقاذ لصالحه وهو متهم لديها بممارسة استئصال للقيادات الاخرى في الجنوب، مع تهميش دور المثقفين الجنوبيين. فما رصدته اميركا لتفجير الجنوب بمعدل 100مليون دولار سنويا للسنوات 2003 و2004 و2005 لن يوضع تحت تصرف العقيد قرنق.
إذاً، نحن في البداية، ويبدو المشوار مسيراً على بيض، وخصوصا ان منظري اميركا الاستراتيجيين كالمستر «روبرت روتبرج» يرون في السودان «دولة فاشلة» لا بد من اعادة تركيبها وصوغها «مقالته في فصلية واشنطن - ربيع 2002 - الطبيعة الجديدة لفشل الدولة القومية - مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) ولكن هناك مأزق .

فما هو؟ مأزق الدول الفاشلة والتدخل الخارجي؟


تشكل حال الدول الفاشلة كالسودان اغراء للتدخل الخارجي، على ان هذا التدخل الخارجي ينبئ بمحذورين:


الاول: وهو ان هذا التدخل الخارجي يتم وفق معايير تعطي الاولوية في إعادة صوغ اوضاع الدول والمجتمعات المتدخل فيها إلى المصالح الاستراتيجية لقوى التدخل العالمية الكبرى مما يجعل «ضبط» التوازن والاتساق بين إعادة الصوغ «عالميا» والاوضاع «الذاتية» إلى هذه الدول والمجتمعات يمر بصعوبات غاية في التعقيد وبما ينعكس سلبا في الغالب عليها، سواء بالنسبة إلى خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو بناء هياكل الدولة أو حتى مركباتها الايديولوجية والثقافية.
ثانيا: ان التدخل الخارجي غالبا ما يشرعن له بالتحالف مع قوى معارضة للأنظمة القائمة والتي تمر بمرحلة فشل الدولة أو انهيارها، وبما ان هذه القوى (الوطنية) تفتقر إلى قدرات «التحرك الذاتي» فإنها تتحول إلى اداة انتهازية رخيصة وضيقة بيد قوى التدخل الخارجي، فيتم استبدال انظمة فاشلة أو منهارة بأنظمة «عميلة» تفتقر بحكم طبيعتها و تركيبها إلى استقطاب الولاء الشعبي.
وهكذا نخرج من «مأزق» إلى «مأزق».

٭ سياسي، ومفكر سوداني

العدد 53 - الإثنين 28 أكتوبر 2002م الموافق 21 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً