للأشياء أوزان مختلفة. وتلك الأوزان المتباينة لها قيمة مختلفة لاعتبارات خارج معايير الجودة. فالقيمة يتحكم فيها شيئان مهمان جداً هما الزمن والثقافة. فقبل عِدّة قرون كان صَدَفُ البحر غالي الثمن لدى سكان الجزر المتناثرة صوب استراليا؛ لأنهم كانوا يستخدمونها في صكّ عملاتهم. وفي لحظة ما، كان اللبان العُماني يساوي ذهباً عند المصريين القدماء الذين كانوا يجلبونه لمعابدهم.
هذا الأمر لا يختصّ بالأزمنة البعيدة، بل حتى بالحاضر. وهو كذلك لا يتعلق بشأن اقتصادي يتحكّم فيه الزمن فقط، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى حيث الصورة الثقافية للمجتمعات. فـ على سبيل المثال، مازالت بعض كائنات البحر لا تساوي شيئاً كثيرًا عند بعض الشعوب لكنها عند شعوب أخرى تمثل وجبة أساسية في غذائهم، نظراً للتاريخ الثقافي الذي كوَّن شكل معيشتهم ودقائقها.
وإذا ما أردنا التدقيق أكثر، فإن الأمر لا يتوقف على الأشياء المادية والأطعمة وكيف أن الزمن والثقافة يتحكمان في وزنها، بل هناك أشياء أخرى ومنها الألفاظ والكلمات ومجموع الحديث. ففي اللحظة التي كانت تعني فيه لفظة «الحبر الأعظم» في إيطاليا وفرنسا الشيء الكثير في السياسة والاجتماع أصبح الناس هناك يتلقونها وفق وعاء مختلف. وهكذا دواليك.
حتى الأحاديث والعبارات لها شأن مختلف تبعاً لظروف الأزمنة وتوقيتاتها. دون أن نغفل بطبيعة الحال أهمية المكان الذي يزيد أو يقلل من وزن الكلمات والعبارات. فعندما تقول كلمة حق في محضر حاكم متجبّر يختلف وزنها عن أيّ كلمة أخرى عند حاكم عادل بما فيها الشتيمة والتطاول عليه، والذي سيتجاوز عنك في حقه حتماً (والأمثلة في ذلك كثيرة من تاريخنا العربي والإسلامي).
من هذا المنطلق، وددتُ أن أثير شيئاً مهماً يتعلق بِحِراكٍ إعلامي متبوعاً بمواقف سياسية حصل في فرنسا خلال الأيام الماضية، وتعلق بحقبة استعمارها للجزائر الذي بدأته في سنة 1830 وحتى العام 1962، بعد ثورة تحرر دامت 8 سنوات ناضل خلالها الجزائريون ولم ينالوا ما يريدونه لوطنهم إلاّ وهم يضعون الشهيد رقم مليون في سبيل ذلك.
فخلال زيارته للجزائر صرّح المرشح الرئاسي الفرنسي إيمانيول ماكرون لقناة الشروق هناك أن «الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية. إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات». وقد فجَّرت هذه الكلمات الـ 29 جدلاً واسعاً في بلاده فرنسا أفصح فيه الجميع عن حقيقته.
هذا التصريح عَدّ «نقطة تحوُّل في التاريخ الفرنسي» أو تكاد من شخص مُرشّح للرئاسة عن يسار الوسط، وكان في وقت سابق وزيراً للمالية. فـ ماكرون أنسى مَنْ قبله من السياسيين الفرنسيين الذين أحجموا في سوادهم الأعظم عن قولٍ شبيه لما قال بما فيهم أصحاب الأقوال الحقوقية. ولن أقول أنه سيُتعِب مَنْ بعده من السياسيين إلاّ إذا فوّتوا عليهم هذا التصريح وقائله باعتباره بات كبش فداء للآخرين، منحازين إلى دوافن العقيدة الفرنسية المهادنة للإمبريالية وتاريخها الطويل.
وقد وقفت على مقال جميل في الـ واشنطن بوست تحت عنوان: « France should apologize for colonialism in Algeria» للكاتبة الفرنسية المقيمة في لوس انجليس مانو ساديا تحدثت فيه بجرأة بشأن ما جرى على رغم «فرنسيتها». إنه فعلاً اختبار صعب سيُمحِّص الساسة الفرنسيين، ويكشف كذلك مواقف المثقفين والفلاسفة هناك حتماً (كما فعل خلال حقبة الخمسينيات).
لا أعلم موقف فرانسوا فيلون على سبيل المثال مما قاله إيمانيول ماكرون حول استعمار فرنسا للجزائر، لكنني أتساءل وأنا أتذكر المقترح الذي قدّمه فيلون قبل سنوات لتقوية الهوية الفرنسية ومن بينها «وضع نسخة من إعلان الحقوق الفرنسي لعام 1789 في كل فصل وتوزيع دفتر للمواطن الصغير يتم فيه تسجيل التقدم في تلقي تعاليم الواجبات المدنية»، وهل يستقيم مع التمنّع في قول الحقيقة تجاه أجلى المواقف من حالة استعمارية مُورِس فيها أقصى وأقسى الانتهاكات؟
ماري لو بان الذي كان والدها جندي مظلات في الجيش الفرنسي أثناء حرب الاستقلال الجزائرية، قالت عبر مندوب عنها أن ماكرون «يكره فرنسا»! وهو أمر قد لا يكون غريباً على اليمينيين الفرنسيين، لكن اللوم يقع حتماً على اليسار الذي لم توافق إحدى منتسباته ووزيرة في الحكومة ممثلة عنه على استخدام ماكرون لفظة «جرائم ضد الإنسانية». وهو أمر غريب.
في مقالها في الواشنطن بوست أشارت ساديا إلى استطلاع نُشِر على موقع «تي إس أيه» الإخباري الجزائري يُذكر فيه أن 51 في المئة من الفرنسيين يوافقون على ما قاله ماكرون الذي انطلق من وصفه ذاك (جرائم ضد الإنسانية) لأن بلاده فرنسا قامت بـ «استيلاء غير مشروع على أرض وإخضاع عنيف لسكان محليين لما فيه مصلحة قوة إمبريالية» كما هو موصوف في القانون الدولي.
والحقيقة أن هذه ثقافة (الإنكار) تكاد تكون أوروبية في عدم القدرة على الاعتراف بارتكاب الجرائم. فالبلجيكيون لم يعترفوا بعد عن جرائمهم في الكونغو خلال حقبة الملك ليوبولد الثاني، وكذلك لم تفعل انجلترا مع الهنود خلال استعمارها بلدهم. وربما نعترف للهولنديين أنهم أقرّوا بجرائم ارتكبوها في إندونيسيا أثناء حرب الاستقلال.
اليوم قال إيمانيول ماكرون كلاماً في زمن «العصبية» و»العنصرية» الفاقع. وقيمة حديثه تنبع من زمان ومكان ما قاله في وسط «غربة الحقيقة». وهو بالتأكيد أفضل من 1000 تصريح يقال في لحظة التجريم الكلي لتلك الحقبة، عندما لا يكون لتلك الأقوال نكهة ولا غرابة ولا تميّز.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5294 - الأحد 05 مارس 2017م الموافق 06 جمادى الآخرة 1438هـ
ترى هل يأتي يوم يعتذر فيه من تكالب على رفاق الخبز والعرق . نتمنى ذلك وان لا تأخذه العزة بالأثم ولكنى متأكد من انه سيأتي يوم سيكون الندم سيد الموقف .
وأنا أيضاً أحيي الكاتب وأحييك على ردك المميز المكمل للمقال وشكراً دزيلاً لكما
مقال جميل.. اعتقد ان التصريح في احد اهدافه الرئيسية يهدف الى كسب اصوات الفرنسيين من اصل جزائري في الانتخابات الفرنسية.. اذ لو كان الأمر محاولة للتصالح مع الذات، لتعين على ماكرون ان يطوف افريقيا لتقديم اعتذارات مماثلة وشرق آسيا.. وحتى كندا واميركا لكي يعتذر للهنود الحمر عن ابادة قبائل بأكملها عبر اهداء هذه القبائل الحفة نوم ملوثة بجراثيم الكوليرا عمداً التي ابادت قبائل عن بكرة ابيها...
أحييك على المقال