تحدث مسئول كردي عراقي قبل أيام عن اكتشاف أثري «نوعي» في مدينة الموصل. فقد أكد غياث السورجي القيادي بالاتحاد الوطني الكردستاني في محافظة نينوى، أن الجيش العراقي عثر أسفل موقع النبي يونس (ع) في الساحل الأيسر للموصل (شمال) على قصر يعود للملك الآشوري اسرحدون. وخلال المعاينة الأوّليّة تبيّن أن القصر يضم كنوزاً ذهبية تعود إلى تلك الحقبة البعيدة.
وربما الصدفة هي التي قادت الجيش العراقي لأن يعثر على ذلك القصر، بعد أن بدأ البحث والتفتيش في أنفاق كان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يستخدمها في المدينة. ولو أدرَكَ هؤلاء الهمج الرعاع ذلك القصر قبل وصول الجيش إليه لهدموه وفجّروه مثلما فعلوا مع قبر النبي يونس، قبل أن ينهبوا المقتنيات والآثار التي لا تُقدّر بثمن ويحملوها لمحافظة الرقة السورية، ثم من هناك بيعها في السوق العالمية السوداء بأسعار «الخردة» مقارنة بثمنها طلباً للمال.
موضوع الآثار في العراق وتاريخ الحضارات فيه واسع لا ينتهي. وقد عرضنا في «الوسط» ملفاً موسعا بشأن ذلك نُشِرَ بتاريخ 23 مارس/ آذار2015. فالعراق هو مهد الحضارات القديمة، التي علّمت الإنسانية القراءة والكتابة وسنت القوانين الناظمة لحياة البشر، مسجلة أهم الكتابات والنقوش، عاكسة في الوقت نفسه مدى التطور التي كانت عليه تلك الحضارات في ذلك الزمن.
فالمثلث الذي يُكوِّنه المجرى الأوسط لنهرَي دجلة والفرات من جهة، وسفح هضبة أرمينيا من الجهة الأخرى، أي الإقليم المعروف عند العرب باسم الجزيرة كما يُعرّفه أداموف شهد دولاً عظيمة امتد نفوذها إلى أماكن بعيدة. وبالعودة إلى الاكتشاف الجديد يجدر بنا أن نتحدث بشيء من التفصيل عن الملك اسرحدون بعد أن كنا قد تناولنا حقبة والده سنحاريب ملك بابل. كانت تلك الحقبة تدور حول سنة 689 قبل الميلاد وهو ذات العام الذي انتصر فيه على بابل ليُتوّج ملكاً عليها.
كانت مدة حكم اسرحدون قرابة الـ 29 سنة كما يذكر أبو الفداء. وهو يعين تاريخه طبقاً لوفاة نبي الله موسى (ع) حين يقول أن توليه (أي اسرحدون) كان مع حلول أواخر سنة 860 بعد وفاة النبي موسى (ع). وكما تشير الدراسات التاريخية فقد كان لهذا الملك الآشوري الصاعد طموحات توسّعية قادته لأن يُجهّز حملة كبيرة طاف بها عدداً من المناطق للهيمنة عليها. وتشير المصادر أنه وصل إلى وسط شبه الجزيرة العربية، فدخل نجد واليمامة والأحساء بمسميات اليوم.
ويشير محمد عصفور إلى أن جيش اسرحدون اقتحم مصر بعد أن هَزم ما يُعرَف بالنبتاويين، فما كان من زعماء الدلتا إلاّ أن سلّموا له الأمر خشية من تدمير مُلكِهِم، فكافأهم على ذلك بأنْ أبقاهم أسياداً في مناطقهم كولاة للآشوريين. لكن وبعد خروجه من الأراضي المصرية عاد الجيش المهزوم مستعيناً بأعالي مصر وبقوات من السودان ليدخل الدلتا من جديد، لكن الآشوريين عادوا وأخذوها من جديد أيام أشور بانيبال وبعد وفاة اسرحدون لتبقى تحت هيمنتهم ردحاً من السنين.
في علاقة ذلك الملك الآشوري بالمناطق العربية تفصيل كثير، لكن إجماله يتعلق بأمور دينية حين كانت الوثنية منتشرة في مناطق العرب. فما يُشار في تلك الفترة هو تعظيم التماثيل المعبودة عند العرب. وكان التنافس الديني قد وصل أشدّه مع تفاخر الآشوريين بإلاههم وتفوقه على أي آلهة أخرى، بينما بقي العرب مستقلون في آلهتهم المتمثلة في تلك الفترة بالأصنام والتماثيل.
وعندما سَلَب اسرحدون أصنام العرب قَدِمَ أعيانٌ منهم لاسترضائه والسماح لهم بإرجاعها. ويذكر التاريخ أن الملك الآشوري قام بإصلاحها من التلفيات التي أصابتها كعربون صداقة منه تجاههم؛ لكنه قام بالنقش عليها بعبارات تفيد تفوق إله الآشوريين على آلهة العرب، ومَهَرَ تحتها اسمه.
لكن تلك العلاقة المتوترة كانت واجهة لأزمة ثقة سياسية لازمت العلاقات الآشورية العربية في تلك الفترة. إذ إن العِداء كان مستحكماً في غالب السنوات بين الطرفين. وفي كل مرة تتم فيها الحرب كان الآشوريين يأسرون أصنام العرب المقدسة ويحبسونها في سجونهم كإهانة لها. لكن أيضاً حرصت آشور على أن تُبقِي على علاقات حسنة مع العرب في أوقات كثيرة وأماكن متعددة.
وقد أشار الباحثون إلى علاقة الآشوريين بالبحرين في تلك الفترة، وكيف أن قبيلة أكاروم كانت تحكم البحرين، وأنها كانت تدفع الجزية للملك اسرحدون. لكن بصورة عامة كانت التجارة عامرة ما بين البحرين ومملكة آشور في العراق. فقد اعتمد الآشوريون على البحرين كنقطة انطلاق تجاري نحو الهند وبقية وساحل الخليج. فقد كانت آشور تجلب الخشب من الهند والنحاس من عُمان.
ولم يتوقف الأمر على العلاقات التجارية، بل امتد إلى الحالة الاجتماعية بعد أن هاجرت جموع من البحرين واستقرت في العراق والعكس. ويُدلّ على ذلك بالإله إنزاك الذي ظل يُعبَد في جنوب العراق، وهو بالأصل من آلهة البحرين في تلك الفترة. وبهذا يكون تأثير البحرين الديني واضح على مملكة آشور، وفي نفس الوقت يطرح الكثير من الأسئلة بشأن طبيعة العلاقة الدينية للإقليم في تلك الفترة.
هذا جزء من تاريخ العراق، بل والمنطقة عموماً حين كانت مساحة اليابسة هي نصف ما هي عليه اليوم تقريباً. فالنظرة للتاريخ البعيد يمنح المرء تصورات لما كان يجري وكيف كانت أواصر الدول متداخلة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5292 - الجمعة 03 مارس 2017م الموافق 04 جمادى الآخرة 1438هـ